"فى العصور القديمة قبل نحو 2000 عام، استيقظ طفل لا يتعدى عمره 5 سنوات، وبدلًا من اللهو خارج منزله، أو اللعب بالدمى والحجارة، تناول سلاحه الصغير من أسفل مخدته وذهب إلى دُغلٍ قريب ليصطاد ما يقتات به، أو يلتقط من الثمار ما يسد رمقه"، هذا هو ملخص دراسة حديثة نُشرت نتائجها فى دورية "ساينس" العلمية.
البحث الجديد، الذى يُعد الأول من نوعه، قام بفحص كومة من الآثار التى عثر عليها فى موقع على ساحل ولاية أوريجون، وتوصل الباحثون فيها إلى أن الأطفال فى العصر القديم تعلموا تقنيات الصيد، واستخدام الأسلحة، والأدوات الحادة التى من شأنها المساعدة فى مواجهة قسوة الجوع.
وتقول الدراسة إن الآباء فى أقدم عصورهم كانوا يعتزون بأطفالهم، وكانوا يعلمونهم منذ بدايات حياتهم المبكرة كيفية استخدام السلاح وصيد الطرائد والجمع والالتقاط والدفاع عن أنفسهم ضد الحيوانات، ليتمكنوا من العيش فى المجتمعات القاسية والبرودة الشديدة التى تميز مناخ تلك المنطقة.
طيلة أعوام، أهمل العديد من علماء الآثار دراسة الكيفية التى عاش بها الأطفال فى العصور القديمة، حيث افترضوا أن الطفولة تبقى طفولة حتى فى الأزمنة الموغلة فى القدم، على حدّ قول إميلى هال، المؤلفة الأولى لتلك الدراسة وعالمة الآثار فى جامعة ألبرتا الكندية، وتقول إميلى، فى تصريحاتها لصحيفة "الرؤية" الإماراتية، إنها قررت فحص ذلك الافتراض عن كثب، إلا أن ما وجدته من آثار يتنافى ببساطة مع ذلك الزعم.
بدأت القصة قبل 3 سنوات، حين عثرت إميلى وفريقها البحثى على كومة من الآثار تشمل أدوات رمى الرمح يمكن حملها باليد، وشفرات مسنونة مصنوعة من الحجارة، وعصى مدببة، إلا أن تلك الأدوات لا يمكن أن يحملها رجل بالغ، إذ إنها صغيرة للغاية ولا يمكن أن تناسب الأيدى الكبيرة.
قام الباحثون بمتابعة التنقيب، وخلال شهور، استخرجوا مزيدًا من تلك الأدوات التى تبدو وكأنها مجرد أدوات تجريبية تشبه مثيلتها الكبيرة، لكنها مخصصة فقط لصغار السن، على حدّ قول إميلى، وفى مجتمعاتنا الحديثة، تشير العديد من الدراسات إلى أن الأطفال الذين يلعبون بالأدوات المخصصة للصيد فى مقتبل أعمارهم يمكن أن يصبحوا أكثر مهارة من ذويهم الذين لا يلعبون بالأدوات ذاتها.
فعلى سبيل المثال، الأطفال الذين يعيشون بين سكان مانيك فى تايلاند، ويبلغون من العمر 4 سنوات فقط يمكنهم إصابة الحيوانات الصغيرة بسهولة، كما أن أطفال شهب هادزا فى تنزانيا، يستطيعون الجمع والالتقاط والخروج إلى الغابات بمفردهم، ومواجهة قسوة الطبيعة بصورة أفضل من ذويهم، وتشير دراسات أخرى إلى أن الأطفال الذين يعيشون فى المناطق البدائية يستطيعون جمع نصف سعراتهم الحرارية اليومية بمفردهم حين يبلغون من العمر 5 سنوات فقط.
وتقول إميلى، إن الأطفال قديماً قد يكون لديهم أيضاً تلك المهارات، فمع قسوة العيش فى مجتمعات بدائية لم يكن هناك وقت للهو، إذ كان القانون وقتها "العيش للأقوياء والشجعان"، وبالتالى اضطر الآباء لتدريب أطفالهم على مواجهة قسوة الحياة بينما كان هؤلاء الأطفال فى سنواتهم الأولى.
فى منطقة مدافن لأطفال الفايكنج فى السويد، عثر الباحثون أخيراً على سكاكين مصنوعة من الصوان، وأسلحة تبدو وكأنها نماذج مصغرة من أسلحة الكبار، وقتها، توقع الباحثون أن تلك الأدوات ربما دُفنت مع الأطفال فى طقس شعائرى جنائزى، إلا أن الدراسة الجديدة قد تغير من ذلك المفهوم، فمن المحتمل أن يكون أطفال الفايكنج يلعبون بتلك الأدوات، أو يستخدمونها للصيد والقنص والدفاع، لتسريع انتقالهم إلى عالم الكبار، خصوصًا مع وجود دلائل تشير إلى أن العديد من مراهقى الفايكنج كانوا مقاتلين فى ذلك الجيش البربرى.
تتفق أيضًا تلك الدراسة مع العديد مما يلاحظه الباحثون فى الكثير من مجتمعات اليوم، إذ يسمح للأطفال بالتفاعل مع الأدوات التى يستخدمها الكبار للعمل أو الصيد، وغالباً دون إشراف الوالدين، فلربما لاحظنا «أن الأطفال فى مجتمعات جنوب شرق آسيا ووسط أفريقيا يلعبون بالسكاكين الحادة، أو حتى يعملون فى الجيوش الانفصالية ويحملون أسلحة نارية قاتلة»، على حدّ ما تقوله إميلي.
لكن، هل كان هؤلاء الأطفال يستخدمون الأدوات للصيد أو الجمع والالتقاط؟ تقول إميلي، إنه من المرجح أن الأطفال مارسوا الجمع والالتقاط بإشراف ذويهم فى ذلك الزمان، إلا أنها ترجح أن الأسلحة المستخدمة فى الصيد كانت وسيلة لتدريب الأطفال فى ذلك العمر المبكر كى يشبوا شجعانًا.
وتضيف إميلى أن "تلك الأدوات كانت بمنزلة الأقلام والكتب فى العصر القديم، فعن طريقها اكتسب الأطفال المهارات التى تؤهلهم للعمل فى ظروفهم المجتمعية فى المستقبل، مثل مهارات الصيد فى عالم قاسٍ، والجمع والالتقاط فى بيئة تشح فيها الموارد، خصوصاً فى الشتاء البارد والمظلم".