الكاتب والروائى وليد علاء الدين له إبداع فى عالم المسرح وعالم الرواية، لكنه يقفز إلينا من خارج دائرة الإيداع إلى دائرة هموم الوطن، هذه الهموم جسدها فى 60 رسالة إلى الوطن فى كتابه الذى صدر مؤخرا عن تبانة للنشر، هذه الرسائل تصنف فى إطار علم الاجتماع السياسى، بعضها لا يحمل نقدا وبعضها يحمل نقدا، وهو يقدم حلول أحيانا بها أحلام يقظة من مبدع، فهل نحلم معه بوطن مختلف هنا أقفز معه فى عدد من الرسائل، فهو يرى فى رسالة مراد وهبة أم إسلام البحيرى أننا فى حاجة ماسة إلى من يدحض افتراءات الخطاب السلفى الظلامى، باعتباره خطاباً أصوليًا يفترض أن رؤيته الخاصة للدين هى الحقيقة المطلقة التى لا تحتمل النقاش أو الخلاف، ولذلك فإن أصحابها يقومون بتصنيف كل من يخالف هذه الحقيقة أو يختلف عنها، بوصفه "جاهلاً" ثم يتطور الأمر إلى "كافر" أو "مارق" أو "ملحد" أو "مرتد" إلى آخره من تصنيفات لا يكتفون بأن تظل نظريًة، إنما يسمعون إلى تطبيقها – كلما أمكن ذلك، أو الكمون إلى أن تكون لهم القدرة على إطلاق يدهم فى هؤلاء والتنكيل بهم، بما يرضى تصورهم المطلق عن الدين.
وللإيضاح، فإن هذا الخطاب الأصولى، ليس حكرًا على دين بعينه، إنما هو طريقة تفكير. يمكنها أن تصيب رؤية الناس فى كل دين، أو فى كل معتقد، والتاريخ يحتفظ لنا بمساخر ومآس ومذابح وصراعات نتجت عن تلك النظرة الأصولية حين ارتبطت بأى من الأديان الثلاثة المصطلح على وصفها بالسماوية أو بغيرها من الديانات والمعتقدات، وليس فقط ما نراه هذه الأيام من أفعال الأصوليين المحسوبين على الدين الإسلامى.
ويؤكد وليد فى رسالته أن ما تحتاجه مصر فى الفترة الراهنة، هو تحرير عقول المجتمع من تلك النظرة تحديدًا، وليس تحرير البشر من انتماءاتهم الدينية، المطلوب إلهام الناس طريقة للتفكير فى كل المعطيات وليس تلقينهم طريقة أخرى للكراهية، يستبدلون بها الكراهية التى زُرعت فى عقولهم بوصفها معتقدًا دينيًا.
المطلوب استعادة القاعدة العفوية التى صاغها المجتمع لنفسه- بنفسه: "كل من له نبى يصلى عليه"، فهى وحدها كفيلة بتهيئة التربة ووضع البذرة الرئيسية لتفكير علمانى صحى تتحرر معه العقول من أسر التقديس المطلق، وتتحرر من سجن المعتقد للانطلاق نحو المستقبل- من دون أى تنازل أو تخل عن الإيمان بالدين.
وقبل أن تبادر – قارئى الكريم- بنعتى بالعلمانى الفاسق، اسمح لى أن أقول لك إن العلمانية ليست كما يصورونها لك بـ "فصل الدين عن الدولة" إنما هى – وفقًا لتعريف الدكتور مراد وهبة، أستاذ الفلسفة فى جامعة عين شمس: "اكتفاء العقل بالتفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق".
ولأن وليد علاء الدين مبدع فإنه يدرك فى معاناة المبدع فى أن تلقى عليه الأضواء لذا اختار فى رسالة أخرى أن يقدم مبدعا روائيًا تجاهلته وسائل الإعلام وأقلام النقاد هو الروائى مختار سعد شحاتة الذى كتب رواية رائعة قرأتها من أول ورقة إلى آخر ورقة، وهى رواية تغريبة بنى صابر، فيذكر عن هذه الرواية فى نقاط ما يلى:-
أولاً:- مختار صديق شخصى، أعرفه عن قرب وتجمعنى به وبأسرته صداقة طويلة تعود إلى تلك الفترة التى يصادق فيها الناسُ بعضهم البعض لأسباب لا تخامرها لا المصالح ولا التطلعات.
ثانيًا:- وهو أمر مهم جدًا فى رأيى- أن بعض الغيرة قد انتابتنى وأنا أجد رواية مختار تستدرجنى إلى عوالمها بمهارة شديدة، يكتب بوعى وبجهد لا يشبه الاستسهال الروائى الذى اعتدنا عليه، يبنى عالمًا ولا يكتفى بحكاية حدوتة، فى عالمه تحمل الكائنات شهادات ميلاد يمكنك أن تراها ممهورة بتوقيع خالقها الجديد، يُعيد عليك القصص فتشعر كأنها ليست معادة إنما هى "براند" حديث سوف يحمل اسمه معه حتى لو استخدم المكونات نفسها.
كنت أشعر كأننى "مستكثر" على مختار هذا الإنجاز، وهو شعورٌ –وإن بدا شريرًا- إلا أننى عادة أنجح فى أقلمة مشاعرى الشريرة وأخرج منها إلى فضاء مجاور أكثر طيبة.
وبمزيد من الاعتداد بالنفس؛ أقول إن غيرتى من رواية مختار تعنى أنها نجحت فى تجاوز مشاكل ذائقتى التى تنفر عادة من الكثير من الروايات المسطحة التى ابتلينا بها هذه الأيام، والتى يمكن –بالمناسبة- تصنيفها إلى ثلاثة أصناف:
رواية تقف عند حدود تقديم قصة لطيفة "حدوتة" تقفز – كقارئ- بين سطورها الخفيفة لتعرف نهايتها فلا يبقى من سحرها فى نفسك شيء ولا تومض فى روحك منها فكرة.
ورواية تنشغل عن القصة "الحدوتة" بالتشكيل اللغوى فتفقد معها متعة الحكى، وثالثة تنشغل عن هذه وتلك بسرد الذات الذى لا يصنع عالمًا ولا يمتعك بحدوتة.
فماذا فعلت "تغريبة بنى صابر" لكى تفلت من أسر هذا التصنيف الحدى القاسى للكتب التى تحمل اسم رواية هذه الأيام؟
ما فعله مختار سعد شحاتة –بالتحديد- هو أنه اجتهد فى تخليص عالم روايته من بين الحدود الثلاثة السابقة، بطريقة أخرى؛ سار بعجينته –بمهارة لافتة- بين العفاريت الثلاثة التى تتناوش كل عجينة يمضى بها صاحبها نحو مخبز الرواية لينضجها، من دون أن يترك لهذه العفاريت الفرصة فى قضم الكثير من رغيفه.
ربما نتحدث لاحقًا عما قضمته العفاريت، ولكننى الآن مشغول بما أفلت به من بين مخالبها.
لكن عزيزى القارئ الرسالة التالية تستحق أن تقرأها معى لروعتها، كتبها تحت عنوان "كم وزيرا فى مصر يفكر؟"
22/6/2015
دخل وزير الصحة إلى مكتبة للمرة الأولى بعد أن أدى اليمين أمام رئيس الجمهورية. التف حوله كبار المسئولين بالوزارة، كل منهم يتحسس طريقه إلى قلب الوافد الجديد على أمل أن يكون عند حسن الظن.
لم يمهلهم الرجل طويلاً، فقد كان سؤاله الأول: إن كان أحدهم يمتلك نسخة كبيرة من خريطة جمهورية مصر العربية!.
تبادل الجميع نظرات الحيرة والتعجب، إلى أن تيقن الوزير أن طلبه غير موجود، فقال: فليكن أول تكليفاتنا إذن توفير نسخة تفصيلية من خريطة البلد الذى نعمل فى خدمته، وأردف: أريدها بحجم هذا الحائط هناك.
نظر الجميع إلى الحائط الذى أشار إليه، كانت صورة الرئيس الضخمة تزينه، وقبل أن يتبرع أحد لتنبهه إلى الأمر، قال بلهجة حاسمة: من فضلكم أزيلوا هذه الصورة، وغدًا فى الصباح عندما أدخل مكتبى أريد أن أرى على هذا الجدار خريطًة إدارية مفصلة بحجم الحائط لمصر.
-هل من طلبات أخرى سيادة الوزير؟ سأله أحد الحضور مزاحمًا بكتفيه الجميع إلى أن صار فى مقدمتهم.
- نعم خلال اليومين المقبلين أنتظر توفير عدة نسخ من الخريطة نفسها، بالإضافة إلى خرائط تفصيلية مكبرة لمحافظات مصر، وخرائط لمراكز المحافظات وفقًا للتقسيم الإدارى المعمول به حاليًا.
- هل من مجال لمعرفة السبب سيادة الوزير؟ تبرع أحد الحضور بإلقاء السؤال الذى بدا أنه شغل أذهان الجميع.
- عندما نلتقى فى الغد إن شاء الله سوف نتحدث فى هذا الأمر؟
فى صباح اليوم التالى وصل سيادة وزير الصحة إلى مكتبه، وعندما وجد خريطة مصر قد كست الحائط الكبير، استبشر خيرًا وأمر بعقد اجتماع عاجل يضم كل العاملين بديوان عام الوزارة، وعندما علّق مديرُ مكتبه بأن قاعة الاجتماعات بالمكتب لن تتسع للجميع، اقترح أن يتم الاجتماع على دفعات حسب استيعاب القاعة، على أن يكون الدخول وفق أولوية وصول الموظفين بغض النظر عن المنصب والدرجة؛ وكان له ما أراد. فى بداية اجتماعه، طلب الوزير من الحضور التدقيق فى خريطة مصر، وبعد أن أمهلهم دقائق، قال:
-هل يجوز أن أكون وزيرًا للصحة فى مصر ولا أعرف بدقة خريطة الكيانات التابعة لوزارتي؟
وعندما جاءته الإجابة بالاستنكار، قال:
-وأنتم كذلك، على كل موظف بديوان وزارة الصحة أن يكون عليمًا بخريطة عمل الوزارة علمَه بأسماء أبنائه.
منحهم الوزير دقائق لاستيعاب الفكرة وتمرير بعض الأصوات التى تحمل بين طياتها خليطًا من مشاعر الاستياء والقلق والفرح أو الترقب، ثم أردف قائلاً فى لطف:
-أعرف أن ذلك ليس بالأمر الهين، ولكننا سوف نتعلم ذلك معًا، وليكمل كل واحد منا النقص الذى يراه فى معلومات الآخرين.
تبرع أحد الحضور بالتأكيد على أن الوزارة تمتلك بالفعل إحصائيات دقيقة وتقارير وافية بأحوال كل الكيانات التابعة لها، ويمكن لسيادته- بالتليفون- أن يطلبها فتكون حاضرة أمامه. ابتسم الوزير وأشار بيده إلى الخريطة التى تغطى الجدار، وقال:
-لاشك فى أننا سوف نستعين بها، ولكن بعد أن ننتهى معًا من هذا الـhome workالجماعي.
راح سيادة الوزير –مستعينًا بالأقلام الملونة- يستعرض التقسيم الإدارى لجمهورية مصر العربية على الخريطة التى تغطى جدارًا بأكمله، وقال:
-دعونا نبدأ بالإجماليات، كم مستشفى ومركزا صحيا ومستوصفا ووحدة صحية تابعة للوزارة فى كل أنحاء الجمهورية، مصنفين حسب طبيعة العمل والخدمات المتوفرة والحجم وغيرها من عناصر، بعدها سوف ننتقل إلى كل محافظة من محافظات مصر، لنحصل على تفاصيل تبدأ بالعدد وتمر بطبيعة الخدمات التى تقدمها كل جهة والهياكل الوظيفية بكل واحدة، وكل ما يخضها من تفاصيل تتعلق بوزارتنا، قبل أن نستكمل من الوزارات الأخرى ما يلزم من معلومات تتعلق بالكثافة السكانية التى تخدمها كل وحدة من تلك الوحدات، والمسافة الجغرافية التى تفصلها عن أقرب وحدة تقدم خدمات شبيهة، وغير ذلك.
وبعد أن انتهى سيادة الوزير من وضع قائمة الطلبات التفصيلية التى يريد الحصول عليها من أرض الواقع، قال:
-لنتفق على تسمية هذا العمل بصورة الواقع، من منكم يرى أنه قادر على المساهمة فى فرق العمل التى ستقوم برسم صورة الواقع؟
عندما اطمأن سيادته إلى أن عدد الموظفين الذين عبروا عن رغبتهم فى العمل كفيلٌ بمنحه الأمل، طلب من المتطوعين أن يشكّلوا من أنفسهم فرق عمل، ويبدءوا فى وضع برنامج زمنى لعرضه عليه شخصيًا فى نهاية يوم غد خلال اجتماع خاص للاتفاق على كافة ما يتعلق بالأمر من تفاصيل وتغذية الفِرق بمن يلزم من خبراء فى التخصصات التى يستدعيها العمل.
تبادل الموظفون نظرات الدهشة والارتياح، الدهشة من هذا الأسلوب الجديد فى العمل، والارتياح من كون الوزير –بنفسه- سوف يترأس اجتماعات فريق العمل. وقبل أن يغادرهم شعور الدهشة كان صوت السيد الوزير يتردد مرة أخرى فى القاعة:
-فلننتقل إلى الخطوة التالية، أريد فرقًا من المتطوعين للعمل بمزيد من التفصيل على كل محافظة من المحافظات على حدة، مع توسيع نطاق البيانات والمعلومات المطلوب توفيرها، وفرقًا أخرى لرفع صورة الواقع من كل مدينة وقرية، نريد إحصائيات بأعداد المستشفيات والوحدات والمستوصفات، مع بيانات كاملة عن طبيعة ما تقدمه كل جهة من خدمات، وبيانات عن العاملين من أطباء ومهنيين وموظفين، ميزانية المكان، حالته من نواحى النظافة والصيانة والنظام، والمشكلات التى تواجهه، ما ينقصه من كل الاتجاهات، مع تحديد موقعه على الخرائط التى سيتم توفيرها لكم، ولكل نقطة يتم تحديدها أرقام التواصل والشخص المسئول للتواصل معه. أعرف أنها مهمة ليست بسيطة، ولكنها ليست مستحيلة، فمن يتبرع لفعل ذلك؟
ارتاح السيد الوزير لأعداد المتبرعين، وطلب منهم –كما فعل مع السابقين- تنظيم أنفسهم مع منح الأولوية للمنتسبين جغرافيًا إلى المحافظات والمدن المطلوب فحصها، على أن يكون موعدهم للاجتماع معه شخصيًا بعد غد، لاستعراض آليات العمل التى طلب منهم أن يحددوها بأنفسهم.
على مدار اليوم كرر السيد الوزير اجتماعاته وطلباته، حتى تأكد له أنه استعرض تصوره أمام كافة موظفى الوزارة، وتأكد أن تلك التكليفات لن تتعارض مع أى من المهام التى يقوم بها الموظفون، بحيث لا يتأثر روتين أعمال الوزارة اليومية.
خلال أسابيع كان السيد الوزير يمتلك "خريطة الواقع" كما أرادها، خريطة توضح بشفافية أحوال الخدمات التى تقدمها وزارة الصحة فى جمهورية مصر العربية، وعليه فقد أصبح قادرًا على تقييم التركة التى استلمها مع معرفة حقيقية لمكامن ضعفها وقصورها، وكذلك نقاط قوتها وتميزها.
ببساطة أصبح قادرًا على اتخاذ أول قرار، وهو البدء بإنقاذ كل ما هو على وشك الانهيار، وتشغيل كل معطل، ومنح الأولوية لكل ما يتعلق بحياة الناس وظروفهم الصحية الطارئة؛ فاتخذ سيادته قراراته التى تضمن ذلك: ترميم المبانى المتهالكة، وصيانة السيارات أو الأجهزة والمعدات الرئيسة المعطلة، واستكمال النواقص الحيوية فى الأماكن التى تعانى من عدم وجود طبيب أو مهنى أو تنقصها سيارة إسعاف أو تعوزها المستلزمات الأساسية التى لا تتم الخدمات من دونها.
من خلال الخريطة كذلك، استطاع سيادة الوزير أن يطبق مبدأ "المليان يكب ع الفاضي" فاكتشف أن عملية إعادة توزيع مدروسة، سواء للموارد البشرية أم للميزانيات أو المستلزمات الطبية والمعدات، كفيلة بسد الكثير من النواقص وتوفير الكثير من الخدمات من دون تحميل الميزانية بمبالغ لا لزوم لها.