علاقتى بالكاتب "مصطفى منير" بدأت عبر صفحات التواصل الاجتماعى، كنتُ قد أبديت رأيًا فى بعض كتاباته، ففاجئنى بطلب مشورة، وقتها كان يكتبُ ما أطلقَ عليه "تخاريف"، وأرسل لي معظمها للإطلاع وما إذا كانت تصلُح لضمّها بين دفتى كتاب من عدمه، قلتُ له فورًا بالطّبع، فكانت تخاريفه –التي اشتغل عليها مرّة أخرى- عبارة عن كتاب "حانة الفوضى".
قبل هذا الكتاب، كانت ثمّة تجربتان روائيتان لـ"مصطفى"، "باب" و"رهف"، وهما تجربتان إلى حدّ ما يُمكن أن نزعم أنّهما من تجارب البدايات، لم يكن قد قبض على مشروعه الحقيقى، وهو عن الفقر والوطن، الذى استكمله بـ"حانة الفوضى"، ثمّ روايته الأحدث والأنضج "قيامة الظّل" الصّادرة مطلع هذا العام.
كان دافعه الأصيل للكتابة هو وفاة والدته، التى توفاها الله وهو لم يزل في عامه الثّاني بكليّة "الألسن"، فضلاً عن اختياره للكاتب "سلمان رشدى" كى يكتب عنه بحثًا مطوّلاً فى أحد مشاريع الكليّة، وكانت والدته تتنبأ له دومًا بأنّه إمّا سيصير كاتبًا أو صحافيًا كبيرًا، هو بالفعل يخطو نحو هذه المكانة، في دأب وتطوّر مستمر، من عمل لعمل، ومن عام لآخر، فى الوقت الذى بدأ يكتسب فيه شريحة محترمة من القرّاء، يتابعون ما يكتب، ويقتنون أعماله، وهو من عمل لآخر، ومن رواية لأخرى، يسعى حثيثًا لمنح نفسه –قبل القارئ- الرّضا التّام عمّا يقدّم، وإن كان هذا الرّضا عامرًا بالتساؤلات الدّائمة، دلالة على الحيرة التي كثيرًا ما يمتلئ به وجدان الكاتب المثابر البّاحث عن التطوّر دومًا، الكاتب غير المستقرّ على شكل مألوف لكتابته، أو شكل مُعتاد كلاسيكي، هكذا حال المُبدع، تستنزفه التساؤلات بين وبين، وتشتّته المعايير، ويبدو هذا جليًّا في صُلب كتابة "منير"، مرّة هو يكتُب عن "الخوف" في رواية "باب"، ثمّ مرّة يكتُب عن "نفسية الأنثى الممّزعة" في رواية "رهف"، ليبدأ حيرته الحقيقية وتساؤلاته الجدلية حول الكتابة ومعاييرها ودور المثقّف الحقيقي ومواقفه تجاه السُلطة والشّارع في كتابه "حانة الفوضى"، والذي عنونه عنوانًا جانبيًا: "رقصات تعانق رصاصات"، وفيه صنع تصوّرًا عن مقابلات وهمية مع كتّاب عُرفوا عبر مواقفهم التي خلّدتهم، "أمل دنقل" و"يحيى الطّاهر عبد الله" و"رضوى عاشور" و"غسّان كنفاني" وغيرهم، هؤلاء اجتمعوا معه في حانة أطلق عليها "حانة الفوضى"، وبينها وبين الشّوارع مسافات، وبينها وبين الحقيقة مسافات، أين الحقيقة في نهاية الأمر؟.
في أحدث رواياته، "قيامة الظّل"، وعنوانها الفرعى: "الذى كان على حق"، يختلق "مصطفى" عالمًا عبثيًا، يفتتحه قائلاً:
(تساءلتُ هل ظلّي يعجبه كونه ظّلى؟
أيتمرّد حين أغفو ويركض هاربًا من جحيمِ ألوانى؟
أيعشق فتاةً هي ثورته؛ ترقص وتتمايل على صوتِ أنّاتِه؟
أنا واثقٌ أنَّ مقولةَ: "كن أنت لا ظلًّا" تزعجه كثيرًا!).
في رواية "قيامة الظّل"، يراوغ "مصطفى منير" القارئ، يدخل عالمًا مجهولاً، ويُحكم سيطرته على أدواته، بل يعرف كيف ومتى ينتزع من القارئ المشاعر على تناقضها، فلا تدرى هل أنت أمام "ديستوبيا" متخيّلة مستقبلية نسجها "مصطفى" باقتدار أم أمام "ديستوبيا" تحدث الآن؟ ربّما تحدث في مُحيطك، أو في مُحيط عالمك، تراها بعينيك، إنّه يتنبأ فتكاد تشعر أنّه لا يخونه هذا التنبؤ، أنت أمام "أجل يحدث بالفعل"، مع متغيّرات الواقع المتسارعة، ومع اختلاف مستويات الوعي العام، "أجل هذا يحدث بالفعل"، في هذه الرّواية رموز مغايرة، ولغة متمايزة، طرح جديد وسرد مختلف، استطاع عبره "مصطفى" أن يقبض على لحظات بعينها، لحظات شعورية، ودقائق ما يعانيه شخوص الرّواية، استطاع أن يقبض على تفاصيل لعلّنا نمرّ أمامها مرور كرام، ولكنّها لا تستوقفنا، ولا حتّى لمجرّد الانتباه الخاطف.
"قيامة الظل" هى قيامة ضمائرنا إن استطعنا، فماذا لو تحكمت الظلال فى أصحابها؟! ماذا لو انسلخت عن البشر ومضت تبني عالمها الخاص بها؟! ماذا لو أنها قرّرت في لحظة أن تسيطر على البشر وتقبض على مصائرهم؟!
"مصطفى منير" كاتب من طراز إنسانى، له خصوصيته، هو قادم بقوّة، وخلال سنوات قليلة آتية سيصبح واحدًا من أهمّ الرّوائيين المصريين.