ألقى الكاتب الليبى الكبير إبراهيم الكونى كلمة خلال افتتاح ملتقى تونس للرواية العربية، والذى يحل عليه كضيف شرف فى دورته الأول، وافتتح فعالياته مساء أمس الخميس الكاتب التونسى كمال الرياحى، مؤسس بيت الرواية، ومنظم الملتقى.
وحظيت الكلمة التى ألقاها ضيف شرف ملتقى تونس للرواية العربية، إبراهيم الكونى، بإعجاب العديد من جمهور الملتقى فى الأول، والذى تستمر فعالياته حتى الخامس من مايو الجارى، وفيما يلى النص الكامل لكلمة إبراهيم الكونى:
"يطيب لى فى البداية أن أعبر عن امتنانى لأهل تونس لقاء حسن الظن الذى التأمنا بموجبه فى هذا المحفل، ثم امتنان آخر على فضيلة أخرى أعظم شأنا ترجمها فى موقفه النبيل من شعبى فى محنته الأخيرة ليأمن أبناءه ويستضيفهم فى دياره، ملقنا بذلك إنسان هذا الزمان درسا فى إحسان، بخلت به أوطان جوار أخرى على إنساننا الشقى، فأغلفت سلطات هذه الأوطان فى وجهه حدودًا كانت مشرعة زمن الرخاء، بدعوى الخوف من فزاعة إرهاب نعلم جميعا أنها لم تقبل علينا إلا من بوابات البلدان! فهنيئا لتونس وأهل تونس على موقف تاريخى كهذا، وهنيئًا لهم على موقف آخر أراه أعظم شأنا هو حكمة أهلمها، التى جنبت هذا الوطن ويلات تغيير، انقلب مارد اختطف منا أوطاننا الأخرى، لتكون تونس النموذج فى ترويض هذا المارد، برغم أنها أول من احتال على المارد، فحرره من القمقم!.
فإيمان أهل هذا الوطن بفضائل السلم يحمل أبعادًا تاريخية، بل ميثولوجية مجبولة بعمق وجودى أنثربولوجى. فأهل فينيقيا لم يقبلوا منذ ثلاثة آلاف عام على هذا التراب غزاة، كما فى بقية الأركان، ولكنهم وفدوا على أرض تانس بزعامة الطريدة "عليس" مستجيرين، ليحققوا مع السكان الأصليين اندماجا طبيعيا مشفوعا بحرب السلم، ليلقنوا الأجيال درسا مثاليا فى قدرة السلم على تحقيق أعجوبة تعايش الأعراق بدون سفك دماء، على النحو الذى عالجناه فى روايتنا الأخيرة "موسم تقاسم الأرض"، وهو ما لم يكن ليتحقق لولا وجود خصلة لعبت هنا دور التميمة السحرية، وهى الوعى العميق بفضل السلم على العنف، فى تجربة تغيير كان فى حياة الأمم، كما فى حياة الأفراد، حلما، بل هاجسًا، ولكنه لا يلبث أن يتحول كابوسا فى حال أفلت من عقال ليدرك حدوده القوى. فكل نشاطنا الدنيوى سعى لإبطال مفعول الباطل، وحلم التغيير هو ترياقه الوحيد.
وهو ما يخلع عليه مسوحاً غيبية، ليغدو فى حياتنا حاجة وجودية تكاد تتحول فينا طبيعة ثانية، لينقلب الهوس بتغيير الأنظمة السياسية مجرد هامش وضيع، فى متن فسيح وفجيع. والتغير، بسبب هذا البعد فى سجيته، هو الظاهرة التى تستهوينا كروائيين، لأنها تشبع فضولنا الميتافيزيقى اللئيم من حيث حرفها الذى يغوى بالمخاطرة، ولكنه الحرف الذى يخفى خيبة الأمل، لأن ما راهنا عليه لا يشترى أبدا الثمن الجسيم الذى نزفناه من أجله.
ذلك أننا بطموحنا نرجو القيمة فى أبعادها القصوى. نرجو من التغير أن يحقق لنا الحلم الذى سيعزينا فى محنتنا، ويهبنا المعنى القادر على تبديد الإحساس التراجيدى بهيمنة باطل الأباطيل فى حياتنا. أى أن يحقق لنا البعد الضائع فى وجودنا الشقى وهو ببساطة: الحقيقة وإذا لم تكن الحقيقة فعلى الأقل خليفة الحقيقة على الأرض التى لن تكون سوى: العدالة. فيخذلنا التغيير عندما يبخل علينا حتى بهذا الظل البائس. وهو ما يعنى أن التغير ضرورة، ولكنها الضرورة التى تأبى أن تحقق الغاية التى عاهدت بها حتى فى حدودها الدنيا.
هذه الطبيعة الجدلية، الدرامية فى الفحوى هى ما استهوى أهل الرواية منذ الأزل فى سيرة التغيير، لتتحول موضوع الرواية الأبدى، لأنها تترجم فحوى سؤال الشيخ سانتياغو فى ذرة محنته: "من هزمك أيها الشيخ؟"، فيجيب نفسه: لا أحد. كل ما هنالك أننى توغلت فى البحر أكثر مما ينبغي". الشيخ فى بحر همنغواى: الإنسان. والبحر: الوجود. وسمك القرش: القدر.
ولكن هل يكفى أن نقول أنه القدر؟
نستطيع فى الواقع الإغريقى أن ننعت هذا الخصم باسم غيبى كهذا، ولكننا لا نملك فى عالم اليوم إلا أن نخل عليه اللقب الذى يليق بروح الحداثة، وهو: الأيديولوجيا، ذلك التنين المعادى للجمال، والخالى من روح الشعر، المدجج بترسانة ملققة من رؤوس ثلاثة "دينى وقومى وثورى" مسلحا بالعقلية التى لا تقنع باحكتار الحقيقة وحسب، ولكنها تأبى إلا أن يكون احتكارها لهذه الحقيقة مسبقا، لتبرهن التجربة، لهذا السبب تحديدًا، كيف أن كل تغيير يأتى فى أعطاف هذا المسخ هو بالضرورة دموى ومميت، وكل تغيير يعقب مصرع هذا التنين بالضرورة أيضل دموى ومميت، وهو ما يعنى أنه لم يكن يوما فى حياة الأمم سوى لعنة بكل المقاييس.
لعل من حظ بلد كتونس أن يشهد تجربة تغييره الأخيرة فى واقع لم يشهد هيمنة هذه الجنية، مما أجار شعبها من بلايا موجعة فيما لو قورنت بحال بقية أوطاننا الأخرى التى ارتوت يوما من آبار الأيديولوجيات المسمومة، فلم تفلح حتى العمليات القيصرية الدامية فى تحرير أجنة التغيير من ظلمات منافيها، لتشهد شموس ميلادها الثانى.
ففى شأن التغيير يطالعنا الدليل مرويا بلسان التجربة، فعندما قامت الثورة التونسية هرع أحد المريدين إلى مقام إمام فلسفة كل الأزمنة عمانويل كانط لينقل له هذه البشارة، وما صاحبها من أحداث، فما كان من هذا الناسك إلا أن تأمل المريد مليا قبل أن يتساءل ساخرا: وهل تسمى هذه ثورة؟ ثم أضاف بيقين: هيهات أن تكون هذه ثورة! الثورة الحقيقة هى ما قمت به أنا! يعنى بذلك ثورة العقل فى شقيه المحض والعقلى، وهو العمل المرجعى الذى تدين النهضة الأوروبية له بالفضل أكثر مما تدين به لجناب الثورة الفرنسية، لأن التجربة التى برهنت أننا إذا وجدنا فى أنفسنا الشجاعة كى ننصب العقل على أنفسنا سيدًا، فلن نعدم أن يحولنا العقل على العالم سادة.
فتخيلوا معى فيما لو استقدمنا اليوم روح هذا الكاهن لنحكمه فى شأن تغييرنا! ألن يكون محقا إذا اتهمنا بالعجز فى تغيير ما بأنفسنا، الذى حثنا عليه ديننا، فيدفعنا هوسنا بتغيير ما بالعالم إلى حد لا نتردد فيه بأن نرمى بأنفسنا فى أتون النار، فى حمى فرارنا من وهج رمضاء واقع وجودنا؟
أفلا يحق لنا أن نتساءل عن السر الذى أجار أجنة التغيير فى بلد كتونس من النزيف، من دون كل أوطاننا الأخرى الظامئة إلى الخلاص من واقع محكوم بسلطان الحرف الذى يميت؟
بالاحتكام إلى ذاكرة الأجيال يهرع لنا التاريخ ليروى لنا سيرة النزال الفجيع مع روما التى استصدر فيها سادة العالم القديم حكم الإعدام فى حق هذه الأرض السخية، ليبلغ بهم الحقد على بسالتها حدًا أمروا فيه بحرث ترتبها بسكة موبوءة بالملح، لا لكى لا تنبت زروعا كما ورثنا فى الصحف الأولى، ولكن لكى يميتوا فيها إرادة تقرير مصيرها، وصون هويتها، ويقضوا فى وجدانها على روح المقاومة؛ ونسى البلهاء أن القيمة، إذا كانت فى الروح غنيمة، فهى المبدأ المعصوم من الفناء لأنها خالدة بخلود الروح التى احتوتها، وتستطيع البذرة فيها أن تستيقظ ولو بعد ألوف الأعوام، تماما كما استيقظت حبات القمح التى خلفها قدماء المصريين فى مقابرهم، فاستنبتها علماء الآثار بعد أربعة آلاف عام. شفرة إرادة التحدى هذه هى فى ظنى ما وهب أمة هذا المكان الثرة جنسا من أصالة، لم يعدم الحيلة فى أن يستقين فى حصانه، عصمت الجيل من أوبئة الحداثة التى هيمن فيها طاغوت الأيديولوجيات الذى حول أناسنا فى أركان أخرى، رهائن، بل ضحايا، ليقينها بأن كل ما أهل به لغير الله فهو معبود زور.
لو تأملنا عملا جليلا كتشييد مدينة ثقافية كاملة، سلخ إنجازها من الزمن عقودًا، لم يكن ليتحقق لولا تحلى القائمين على الأمر بالنفس الطويل لن يقارن إلا بروح الكهنوت التى لمسناها لدى دهاة مصر القديمة فى بناء لا الأهرامات وحدها، ولكن فى بناء مجمع معابد الكرنك أيضًا الذى استنزف من القوم أجيالا. وهو ما لم يكن ليتحقق فى واقع يهمين عليه سلطان الأيديولوجيا الذى لم يراهن يوما على القيمة فى أى عمل، ولكن على الآنى، على الأنانى، على الفانى، على فاكهة الحس التى يستطيع هذا السلطان الجائر أن يتباهى بها أمام الأغيار، ويسوقها كشهادة على ما تغنت به الأنظمة الأيديولوجية دوما، تحت اسم مبتذل هو: الإنجاز، ظنا منها أنه سيشفع لها لدى جناب التاريخ، ناسية أن هذا الحكم العبوس لم يعترف يوما بالمرئى، لأنه وقتى، ولكن بالمخفى، لأنه أبدى، لأن دين الأيديولوجيا الحرف الذى يميت، لأنها بطبيعتها معادية للروح التى تحيى.
فكما لا ننجب الذرية لتكون لنا فى نيانا عونا، ولكن لنستودعها من بعدنا ذخيرة للإنسانية لتجنى الأجيال من ورائها نفعا، كذلك نجود بأعمالنا لتكون لنا سفيرا مفوضا، بل وشفيعا لدى بلاط المستقبل، لأننا بالزهد وحده نفلح فى بث أنفاسنا فى الحجر لننحت من الصلدم ترنيمة، ونلقق من عجنة الطين معبدًا مسكونا بروح المعبود ليتحول مشروع مثل تشييد مدينة ثقافية مبدأ رساليا رديفا لتشييد مجمع لدور عبادة، لا بمعيار الاستعارة وحسب، ولكن بحرف العبارة أيضا، وليس مصادفة أن تستعير اللغات الأوروبية مفهوم الجامعة من الكلمة اللاتينية الدالة على الجامع بالعربية، بوصف الجامع هو خازن المعارف، لا فى لسان اللاهوت وحده، ولكن فى رطانة الناسوت أيضًا.
وهو ما قد يعنى أن غياب الأيديولوجيا فى واقع بلد كهذا هو ما استطاع أن يمهد السبيل لإنجاز عمل معرفى ورسالى جرئ شرف جموعنا كرموز ثقافية عربية بأن تجتمع فيه اليوم باستكمال الهيكل، بيقين يوكد أن هذا الحرم الجامع لم يكن ليتحقق فى أزمنة الضائقة الاقتصادية الخانقة، وفى واقع بيئى محروم من الموارد الطبيعية، لولا سخاء عرق أبناء هذا الوطن، ولولا حضور الحكمة فى إرادة أهلها. فلا نملك إلا أن نحيى فى أهل تونس هذه الروح، ونعبر لهم عن امتنانا على الحفاوة، وعلى العطاء، وعلى تشييد كيان ثقافى هو يقينا بالفحوى حرم جامع بل دار عبادة.
فطوبى لأمة حكمت استثمار السلم فى تجربة تغيير واقعها، واعتمدت مواهبها الطبيعة فى تنمية أرضها، مستعينة فى سعيها لبناء مستقبل أجيالها بصلاة هى العمل، ممتنة للعناية الإلهية التى أجارتها من شرور لعنتين صارتا ورما خبيثا فى وجدان هذا الزمان، وهما: النفط والأيديولوجيا، لأن الأيديولوجيا إذا كانت مكيدتنا فى حق الحقيقة، فإن النفط هو الغنيمة التى تميت فينا الضمير جزاء انتهاكا لحرمة أمنا الطبيعة، لأن نهمنا لاغتنام المزيد يمنعنا من أن نقنع بما تهبه لنا هذه الأم السخية طوعا، فنأبى إلا أن ننتزعه من جوفها غصبا.