فى الوقت الذى يصبح فيه نقلة المعرفة من الغرب "رواد" للعلم والفكر فى بلادنا، والأمثلة على ذلك يصعب حصرها، فزكى نجيب محمود يأتى من أوربا ومعه فى حقيبة سفره "الوضعية المنطقية" ليروج لها هنا فى مصر العالم العربى، ويدافع عنها أكثر من أولئك الذين وضعوها فى بلادهم، ليصبح "فيلسوفا" لا يشق له غبار.
وهذا هو الراحل "غنيمى هلال" يقدم المدرسة الفرنسية فى الأدب المقارن كما تعلمها فى باريس، ويطبقها على علاقة الأدب العربى بسواه من الآداب الأخرى، ليصبح "رائدا" للأدب المقارن فى مصر والعالم العربى، والراحل عبد المنعم القيسونى يطبق طرق تصريف سعر الصرف التى كانت سائدة فى ألمانيا النازية، والتى تعلمها على يد أحد مساعدى "شاخت"، مدير البنك المركزى فى ألمانيا النازية، والذى لجأ لمصر بعد هزيمة النازية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وإذ به، أى القيسونى يطبق ما كانت ألمانيا النازية تفعله مع سائر الأقطار التى كان معظمها مناوئا لمشروعها الاستعمارى على أساس "اتفاقات سعر صرف ثنائية " مع كل منها على حدة، وإذا بالقيسونى يطبق المبدأ نفسه بحذافيره على علاقاتنا الاقتصادية مع البلاد العربية التى كانت تناضل من أجل التخلص من الاستعمار الغربى، أو تسعى للحصول على استقلالها السياسى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، دون أن يلتفت للتناقض الواضح بين حيل سعر الصرف التى كان يتبعها النظام النازى فى ألمانيا التوسعية على حساب سواها من الشعوب، والطريقة المختلفة التى كان عليه أن يتخذها بإزاء تنظيم سعر الصرف بين مصر وسائر الأقطار العربية التى كانت تناضل مثلنا من أجل الحصول على استقلالها السياسى. ومع ذلك فقد اعتبر عبدالمنعم القيسونى "عبقرى " زمانه فى الاقتصاد مما جعل الراحل حسنين هيكل يفتح له صفحات الأهرام فى الستينيات ل"يعلم" الشعب المصرى، ولكن ما كتبه كان ـ كما يوضح د مجدى ـ لا يتجاوز ما يدونه تلميذ ضعيف فى كراسة الإنشاء . وقس على ذلك فى جميع التخصصات الحديثة.
فى هذا السياق الذى تختزل فيه الذات الحضارية للوافد من حلول الآخر الغربى بخاصة، والذى صار فيه الترويج لكل ما هو غربى، أو قادم من ثقافات أجنبية "فتحا" لا يشق له غبار فى مختلف التخصصات، إذ بصاحب هذا الكتاب يدعو للعكس: أن نبدأ أولا من السياق الفعلى اجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا، الذى نعيشه فى مرحلتنا الراهنة فى كافة المجالات، لنتعرف من خلاله على مدى اختلافنا عن السياقات التى أنتجت حلولها والتى مهما تجاوزت الشروط الموضوعية التى أدت إليها فى مجتمعاتها، إلا أنها لا تفهم ولا تستوعب حسب مجال تخصصها إلا بالرجوع لتلك الشروط الموضوعية نفسها، وذلك حتى ينزع عنها طابعها الأسطورى "المبهر" بحيث يتحول التعرف عليها إلى استيحائها ابتداء من الوعى باختلافنا الموضوعى عن سياقات مجتمعاتها التى أنتجته . وإذا كان ذلك يبدو جليا فى علوم الإنسان، أو ما يدعى بالعلوم الاجتماعية، فهو يصدق بالمثل على الكثير من حالات العلوم الطبيعية.
جدير بالذكر أن عددا من كبار الباحثين العرب فى مختلف التخصصات قد تضامن متفاعلا مع المؤلف فى تبنى المنهج الذى قعّد له منهجيا بالصدور أولا عن سياق الاستقبال فى اختلافه عن سياقات المجتمعات الأخرى التى نستوحى منها الحلول فى مختلف مجالات المعرفة بحيث يضيف سياق الاستقبال لما يفد عليه من حلول بدلا من أن يكرسها على ما هى عليه على الرغم من أنها نشأت تحت شروط موضوعية تختلف عن تلك الممارسة فى مجتمع المصب.
وقد حذا حذو مؤلف هذا الكتاب الذى يقدم مشروعا منهجيا ونموذجا فلسفيا جليا ومختلفا عما هو سائد فى سياسة العولمة علماء كبار لنا فى مجالى علم الأدوية (الدكتور محمد رؤوف حامد)، وهندسة الإنتاج (الدكتور حامد الموصلى)، حيث علق كل منهما من خلال تخصصه العلمى الطبيعى الدقيق على ما قدمه الدكتور مجدى يوسف ـ مؤلف هذا الكتاب ـ وصاحب هذا النهج البديل من مقترحات وحلول فى مجال ترجمة الشعر الأجنبى للعربية من منطلق ثقافى اجتماعى قبل أن يكون محض لغوى. ذلك أن المنطلق الفلسفى لهذا الكتاب يتلخص فى عدم الركون لمحاكاة الآخر مهما كان متقدما، أو عن انبهار بما حققه من حلول وتقنيات، وإنما السعى للتعرف على الأسباب الموضوعية التى أدت لتلك الحلول، ومن ثم ليس مجرد نزع الطابع الأسطورى عنها، وإنما بالمثل تمهيد الطريق للإضافة إليها ابتداء من الاختلاف الموضوعى للسياق الاجتماعى الثقافى المستقبل لها. فبقدر ما يكون الوعى بذلك الاختلاف الموضوعى ـ وليس الذاتى ـ بين الأنا والآخر المجتمعى بقدر ما تتحقق شروط الإبداع فى البحث عن حلول تكافئ مجتمع المصب إشباعا لخصوصيته النسبية عن تلك التى تميز سواها عنها من مجتمعات هذا العالم.
ومن هنا فإن الدكتور مجدى يوسف يدعو فى هذا الكتاب لنبذ الاستعمار الثقافى، متمثلا فى المسعى لعولمة معارف صادرة عن خصوصيات غربية نسبية، والسير فى ركابها فى بلادنا بمحاولة محاكاتها ظنا منا أن فى ذلك ما يجعلنا نواكبها فى "تقدمها"، بينما يؤدى ذلك فى الواقع إلى تعميق تبعيتنا لها فى مختلف المجالات.
ومؤلف هذا الكتاب يضرب الأمثلة على ذلك فى تخصصات مختلفة تمضى من العلوم الطبيعية، عبر العلوم الاجتماعية، وفى مختلف الأنواع الأدبية المستوحاة من الغرب فى العصر الحديث. فمدخله البديل يقوم على نهج اجتماعى ثقافى، وليس محض لغوى فى تناول منجزات الآخر، لاسيما الغربى فى العصر الحديث . ولذلك فإن الدكتور مجدى ينادى بأن تكون لنا أدواتنا المنهجية الناقدة للآخر ابتداء من اختلافنا الموضوعى عنه دونما أدنى محاولة مستحيلة لقطيعة معه، أو لاستكانة لحلوله، وإنما للإضافة إليه بناء على ذلك الوعى باختلاف الذات الثقافية الاجتماعية عنه.
ولم يتجاهل هذا الكتاب اللافت الجانب التطبيقى، حيث ضم بين دفتيه تطبيقات عينية لمنهجية تعضد الأساس النظرى الذى طرحه، ويستطيع قارئ هذا الكتاب أن يجد الأمثلة الدالة على ذلك فى عرضه للمؤتمر الذى عقده المؤلف فى مقر اليونسكو بباريس فى موضوع: الإسهام العربى المعاصر فى الثقافة العالمية، بدءا بالعلوم الطبيعية والإسهام العربى الراهن فيها فى علوم الصيدلة مثال اكتشافات الدكتور محمد رؤوف حامد، وفى هندسة الإنتاج على يد الدكتور حامد الموصلى، وعبر العلوم الاجتماعية (الاقتصاد السياسى نموذجا فى الإسهامات الناقدة الرفيعة المستوى للدكتور محمد حامد دويدار، جامعة الاسكندرية)، وانتهاء بالتنظير للفن والأدب نماذج المهندس حسن فتحى، والمعمارى راسم بدران فى الأردن، وتنظير المؤلف القائم على اقتراح تمفصل الأدب العربى المعاصر مع سائر آداب عالم اليوم بناء على موقف تنظيرى مختلف عن التنظيرات السائدة فى الغرب والمعولمة أو التى تسعى للعولمة، والتى صار يروج لها فى بلادنا باسم "العلم " فى العلوم الاجتماعية مثلا على يد "محمد الجوهرى" وأمثاله، بينما يحصل بعضهم "مكأفأة لهم“ على الترويج المستكين لتنظيرات الآخر المهيمن على "أعلى" جوائز الدولة فى العلوم الاجتماعية.
ويقوم تنظير مجدى يوسف على مقترحه بالوقوف أولا على نسبية اختلافنا الموضوعى عن سوانا فى المرحلة الراهنة من تاريخنا المعاصر، ومن ثم على ضرورة إعادة النظر فى حلول وتنظيرات المجتمعات الأخرى فى هذا العالم، لا سيما "العالم المتقدم" فى الغرب ..كما أنه يكشف العوار فى صورة الغرب عن نفسه من خلال ما يدعى "الأدب الأوربى " بالمفرد ،وليس بالجمع على الرغم من اختلاف الغربيين بعضهم عن البعض الآخر أكثر من اختلاف كل منهم عن أى من الثقافات غير الغربية ( انظر الفصل المعنون : خرافة الأدب الأوربى ص ١٩٩ـ ٢٨٠) وهو فى ذلك يمثل امتدادا وتأصيلا منهجيا لكتبه السابقة : التداخل الحضارى والاستقلال الفكرى (مكتبة الأسرة، ٢٠٠٦) ومن التداخل إلى التفاعل الحضارى (كتاب الهلال، يونيو ٢٠٠١)، ومعارك نقدية (مكتبة الأسرة، طبعة أولى عام ٢٠٠٢والطبعة الثانية الصادرة منه عام ٢٠٠٧ مزودة بتسع إضافات عن الهيئة المصرية العامة للكتاب).
هذا بالإضافة لأعماله المنشورة فى ست لغات أوربية فى نقد الأسس المعرفية الفلسفية التى تقوم عليها المركزية الغربية، حيث يدرس نقده هذا فى غير جامعة أوربية وأمريكية، مع احتفاء خاص به فى جامعة " لاسابينزا" (أى الحكمة) فى روما حيث كان نقده للمركزية الأوربية ملهما لتأليف كتابين بالإيطالية ترجم أحدهما للعربية فى المشروع القومى للترجمة ليصدر عام ٢٠٠٧.
من هنا فإن الدكتور مجدى يوسف منزعج بشدة لهيمنة المنتج الغربى على أرجاء البسيطة كلها، خاصة وأن معظم الأفكار الثقافية والإنتاجية للغرب مهيمنة بصورة كاسحة باسم الحداثة فى كافة أرجاء المسكونة.
وهنا مكمن الخطورة لأن ذلك يلغى التعددية الثقافية ومن ثم الخصوصية النسبية لإبداعات كل من المناطق الحضارية على مستوى العالم.
وليست منطقتنا العربية ببعيدة عن الانسحاق أمام هذه الهيمنة الغربية حتى عد كل من اجتهد ونقل نظرية غربية أو ترجم كتابا غربيا لافتا من رواد "التنوير" فى مجتمعنا.
والخطورة الحقة ـ كما يرى د مجدى يوسف بحق ـ هى فى اقتصاص النظريات من سياقها الغربى ولوى عنق واقعنا لكى يخضع لشروط هذه النظريات كى يبدو "علميا" وعصريا، بينما هو يفضى فى الحقيقة لتغييب رؤيتنا عن واقع حياتنا من خلال تكريس رؤيتنا الاستغرابية المستشرية باسم المعرفة فى مؤسساتنا التعليمية والبحثية على حد سواء.
من هنا فإن هذا الكتاب اللافت يعد إضاءة حقيقية لمعضلة راهنة تعيد الاعتبار والثقة لنا، وتقدم لنا البديل المنهجى الفلسفى قبل الإجرائى من أجل تكريس الجهود للبحث عن حلول نابعة من سياقاتنا ومرحلتها الراهنة فى خصوصياتها النسبية.
ولا يعنى ذلك بأى حال من الأحوال الانغلاق أمام الآخر، وإنما يعنى بالأساس التفاعل الخلاق معه من منطلق الوعى باختلاف سياقاتنا عن سياقاته التى أنتجت حلوله مهما بدت متميزة . من هنا فنحن بحاجة لتأسيس فلسفى مختلف لـ"ترجمة"الآخر، لاسيما الغربى، إلى سياقاتنا المختلفة عنه فى طرح أسئلتها على واقعها المفارق.