نستكمل اليوم حكاية الملك يونان والحكيم رويان، من حكايات ألف ليلة وليلة، التى تعد من أكثر الطقوس التى ارتبطت فى ذاكرتنا بشهر رمضان المبارك، ونقدمها فى سلسلة سحر الحكايات فى رمضان.
الليلة الثامنة.. حكاية الملك يونان والحكيم رويان
وفى الليلة الثامنة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد، أن الشاب المسحور قال للملك: لما ضربت العبد لأقطع رأسه قطعت الحلقوم والجلد واللحم فظننت أنى قتلته فشخر شخيرًا عاليًا فتحركت بنت عمى وقامت بعد ذهابى فأخذت السيف وردته إلى موضعه وأتت المدينة ودخلت القصر ورقدت فى فراشى إلى الصباح، ورأيت بنت عمى فى ذلك اليوم قد قطعت شعرها ولبست ثياب الحزن، وقالت: يا ابن عمى لا تلمنى فيما أفعله، فإنه بلغنى أن والدتى توفيت وأن والدى قتل فى الجهاد، وأن أخوى أحدهما مات ملسوعًا والآخر رديمًا فيحق لى أن أبكى وأحزن، فلما سمعت كلامها سكت عنها وقلت لها: افعلى ما بدا لك فإنى لا أخالفك، فمكثت فى حزن وبكاء وعددى سنة كاملة من الحول إلى الحول، وبعد السنة قالت لى أريد أن أبنى فى قصرك مدفنًا مثل القبة وأنفرد فيه بالأحزان أسميه بيت الأحزان.
فقلت لها افعلى ما بدا لك فبنت لها بيتًا للحزن فى وسطه قبة ومدفنًا مثل الضريح ثم نقلت العبد وأنزلته فيه وهو ضعيف جدًا لا ينفعها بنافعة لكنه يشرب الشراب، ومن اليوم الذى جرحته فيه ما تكلم إلا أنه حى لأن أجله لم يفرغ فصارت كل يوم تدخل عليه القبة بكرة وعشيًا وتبكى عنده، وتعدد عليه وتسقيه الشراب والمساليق ولم تزل على هذه الحالة صباحًا ومساء إلى ثانى سنة وأنا أطول بالى عليها إلى أن دخلت عليها يومًا من الأيام، على غفلة فوجدتها تبكى وتلطم وجهها وتقول هذه الأبيات:
عدمت وجودى فى الورى بعد بعدكم فإن فؤادى لا يحب سواكم
خذوا كرمًا جسمى إلى أين ترتموا وأين حللتم فادفنونى حداكم
وإن تذكروا اسمى عند قبرى يجيبكم أنين عظامى عند صوت نداكم
فلما فرغت من شعرها قلت لها وسيفى مسلول فى يدى: هذا كلام الخائنات اللاتى يسكرن المعشرة، ولا يحفظن الصحة وأردت أن أضربها فرفعت يدى فى الهواء فقامت وقد علمت أنى أنا الذى جرح العبد ثم وقعت على قدميها وتكلمت بكلام لا أفهمه، وقالت جعل الله بسحرى نصفك حجرًا ونصفك الآخر بشراً، فصرت كما ترى وبقيت لا أقوم ولا أقعد ولا أنا ميت ولا أنا حى.
فلما صرت هكذا سحرت المدينة وما فيها من الأسواق والغبطان وكانت مدينتنا أربعة أصناف مسلمين ونصارى ويهود ومجوس فسحرتهم سمكاً، فالأبيض مسلمون والأحمر مجوس والأزرق نصارى والأصفر يهود وسحرت الجزائر الأربعة جبال وأحاطتها بالبركة، ثم إنها كل يوم تعذبنى، وتضربنى بسوط من الجلد مائة ضربة حتى يسيل الدم ثم تلبسنى من تحت هذه الثياب ثوبًا من الشعر على نصفى الفوقانى ثم أن الشاب بكى وأنشد:
صبرًا لحكمك يا إله القضا أنا صابر إن كان فيه لك الرضا قد ضقت بالأسر الذى قد نابنى فوسيلتى آل النبى المرتضى.
فعند ذلك التفت الملك إلى الشاب وقال له: أيها الشاب زدتنى همًا على همى، ثم قال له: وأين تلك المرأة قال فى المدفن الذى فيه العبد راقد فى القبة وهى تجيء له كل يوم مرة وعند مجيئها تجيء إلى وتجردنى من ثيابى وتضربنى بالسوط مئة ضربة وأنا أبكى وأصيح ولم يكن فى حركة حتى أدفعها عن نفسى ثم بعد أن تعاقبنى تذهب إلى العبد بالشراب والمسلوقة بكرة النهار.
قال الملك: والله يا فتى لأفعلن معك معروفًا أذكر به وجميلًا يؤرخونه سيرًا من بعدي، ثم جلس الملك يتحدث معه إلى أن أقبل الليل ثم قام الملك وصبر إلى أن جاء وقت السحر فتجرد من ثيابه وتقلد سيفه ونهض إلى المحل الذى فيه العبد فنظر إلى الشمع والقناديل ورأى البخور والأدهان ثم قصد العبد وضربه فقتله ثم حمله على ظهره ورماه فى بئر كانت فى القصر، ثم نزل ولبس ثياب العبد وهو داخل القبة والسيف معه مسلول فى طوله، فبعد ساعة أتت العاهرة الساحرة وعند دخولها جردت ابن عمها من ثيابه وأخذت سوطاً، وضربته فقال آه يكفينى ما أنا فيه فارحمينى فقالت: هل كنت أنت رحمتنى وأبقيت لى معشوق، ثم ألبسته اللباس الشعر والقماش من فوقه ثم نزلت إلى العبد ومعها قدح الشراب وطاسة المسلوقة ودخلت عليه القبة وبكت وولولت وقالت: يا سيدى كلمنى يا سيدى حدثنى وأنشدت تقول:
فإلى متى هذا التجنب والجفا
إن الذى فعل الغرام لقد كفى
كم قد تطيل الهجر لى معتمدًا
إن كان قصدك حاسدى فقد اشتفى
ثم إنها بكت وقالت: يا سيدى كلمنى وحدثنى فخفض صوته، وعوج لسانه وتكلم بكلام السودان وقال: آه لا حول ولا قوة إلا بالله فلما سمعت كلامه صرخت من الفرح وغشى عليها ثم إنها استفاقت وقالت لعل سيدى صحيح، فخفض صوته بضعف وقال: يا عاهرة أنت لا تستحقى أن أكلمك، قالت ما سبب ذلك، قال سببه أنك طول النهار تعاقبين زوجك وهو يصرخ ويستغيث حتى أحرمتينى النوم من العشاء إلى الصباح، ولم يزل زوجك يتضرع ويدعو عليك حتى أقلقنى صوته ولولا هذا لكنت تعافيت فهذا الذى منعنى عن جوابك، فقالت عن إذنك أخلصه مما هو فيه، فقال لها: خلصيه وأريحينا فقالت: سمعًا وطاعة.
ثم قامت وخرجت من القبة إلى القصر وأخذت طاسة ملأتها ماء ثم تكلمت عليها فصار الماء يغلى بالقدر ثم رشته منها وقالت: بحق ما تلوته أن تخرج من هذه الصورة إلى صورتك الأولى: فانتفض الشاب وقام على قدميه، وفرح بخلاصه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالت له: اخرج ولا ترجع إلى هنا وإلا قتلتك وصرخت فى وجهه.
فخرج من بين يديها وعادت إلى القبة ونزلت وقالت: يا سيدى اخرج إلى حتى أنظرك، فقال لها بكلام ضعيف أى شيء فعلتيه، أرحتينى من الفرع ولم تريحينى من الأصل، فقالت يا حبيبى وما هو الأصل قال: أهل هذه المدينة والأربع جزائر كل ليلة، إذا انتصف الليل يرفع السمك رأسه ويدعو على وعليك فهو سبب منع العافية عن جسمي، فخلصيهم وتعالى خذى بيدي، وأقيمينى، فقد توجهت إلى العافية فلما سمعت كلام الملك وهى تظنه العبد، قالت له وهى فرحة يا سيدى على رأسى وعينى بسم الله، ثم نهضت وقامت وهى مسرورة تجرى وخرجت إلى البركة وأخذت من مائها قليلاً، وأدرك شهريار الصباح فسكتت عن الكلام المباح.