تبدأ قصة مارتن جير بشكل عام بزواجه فى عام 1538 من برتراند دى رول؛ وكان الهدف من هذا الزواج هو عقد رابطة بين آل جير وآل رول - وهما عائلتان ريفيتان موسرتان فى قرية أرتيجا فى جنوب غرب فرنسا - ولكن الزواج بدأ بداية عصيبة.
أغلب الظن أن المشكلة كانت تكمن فى عمرَى العروس والعريس، على الرغم من أن كلتا العائلتين ألقتا باللوم على أعمال السحر والشعوذة؛ فقد كانت برتراند لم تتجاوز التاسعة أو العاشرة، فى حين كان مارتن فى الرابعة عشرة. وقد استغرق الأمر ثمانية أعوام لإتمام الزواج، وهو تأخير كان مهينا لمارتن بلا شك، وما أهانه بالمثل أيضا اندلاع مشاجرة عائلية ضخمة - عام 1548 - اتهمه خلالها والده بسرقة بعض الغلال، وبعد ذلك بفترة وجيزة، هجر الشاب زوجته واختفى بلا أثر.
بعدها بثمانية أعوام، بعد وفاة والديه، عاد مارتن جير إلى أرتيجا، وأوضح أنه عبر جبال البرانس، والتحق بالجيش الإسبانى، وحارب فى هولندا. وعلى ما يبدو أن التجربة قد غيرته: فقد صار شخصا أكثر ثقة بنفسه، وتأقلم بسهولة مع دوره الجديد كرب للعائلة، وصار زوجا أكثر رقة وحبا، وكانت عودته مثار سعادة وبهجة لعائلته وزوجته.
بعد ذلك، وفى أواخر عام 1558، طالب مارتن عمه - بيير جير - بنصيبه من أرباح مزرعة العائلة أثناء غيابه، ولم يرق ذلك لبيير، فراح يشير فى غضب إلى أنه على مدار ثمانية الأعوام التى غاب خلالها مارتن، لم يكن يدير المزرعة فحسب، بل قام أيضا برعاية زوجة ابن أخيه وابنه، وتزايدت شكوك بيير فى الابن الضال فى العام التالى، حين قال جنديان كانا يمران عبر القرية إنهما خدما مع مارتن جير فى الجيش وإنه فقد إحدى ساقيه خلال الحرب، ولكن مارتن الذى كان موجودا فى أرتيجا كان بساقيه.
فأضحى بيير حينئذ على قناعة بأن غريمه ليس جشعا فحسب، بل محتالا أيضا.
وأدى النزاع بينهما إلى سلسلة من المحاكمات وصلت إلى ذروتها فى جلسة استئناف أمام محكمة تولوز فى عام 1560. وقد ألف أحد القضاة هناك، ويدعَى جون دى كورا، كتابا عن تلك القضية يظل المصدر الأساسى لمعظم ما يعرفه المؤرخون عنها.
كانت إجراءات التقاضى تسير على نحو غريب. فقد استدعى معظم سكان أرتيجا وكثيرون من القرى المحيطة للشهادة. وكان من بين من شهدوا ضد المدعى عليه بيير، وأبناؤه، ووالدة برتراند (التى كانت قد تزوجت من بيير آنذاك)، وإسكافى القرية (الذى صرح بأن قدمى مارتن «الجديد» كانتا أصغر بشكل لا يمكن تفسيره من قدمى مارتن القديم). وكانت من بين الشهادات التى أضرت به ضررا كبيرا شهادة عدد من سكان بلدة لوبا القريبة؛ فقد تعرفوا على المدعى عليه بوصفه أحد أبناء بلدتهم فيما سبق، وهو شخص وضيع ووغد يدعَى أرنو دو تيل، وكان مشهورا باسم بانسيت.
كان هناك أيضا الكثير من الشهادات التى جاءت فى صالح المدعى عليه. فقالت شقيقات مارتن الأربع إن الرجل الماثل أمام المحكمة هو شقيقهم بلا أدنى شك، وأجاب المدعى عليه نفسه عن كل الأسئلة الموجهة إليه بثقة، مسترجعا أحداثا من طفولته وصباه بشكل مفصل، وكان الأهم من كل ذلك شهادة برتراند — على الرغم من أنها قد شاركت بيير فى التوقيع على الشكوى التى أدت إلى المحاكمة — إذ رفضت وقتذاك أن تقسم بأن المتهم ليس زوجها.
ووقَع القضاة، بمن فيهم كورا، فى حيرة من أمرهم، ولكنهم تنبهوا إلى أن النزاع المالى بين بيير والمدعى عليه قد خلق دافعا قويا لتلفيق العم اتهاما كاذبا. كما تأثروا باسترجاع المدعى عليه الذكريات على نحو بارع وبحقيقة أن برتراند - أكثر من كانت تعرفه - وكتب كورا أن القضاة كانوا "أكثر ميلا ليقفوا فى صف السجين ضد المدعو بيير جير؟
ثم جاء حل لعقدة القصة كان سيترك جون جريشام يهز رأسه فى عدم تصديق. فبينما كان القضاة على وشك إعلان قرارهم، إذا برجل له ساق خشبية يدخل قاعة المحكمة ويقول إنه مارتن جير.
اعترض المدعى عليه بشدة، وزعم أن بيير قد رشا أحدهم بالضرورة كى يلعب هذا الدور، وراح يمطر الوافد الجديد بالأسئلة، بدا الشاهد أقل معرفة ببعضها من المدعى عليه، ولكن حجة المدعى عليه راحت تنهار أمام ناظريه، إذ هجرته شقيقات مارتن ورحن يعانقن الوافد الجديد، ثم استدعيت برتراند إلى قاعة المحكمة، وبعد نظرة واحدة، بدأت فى الارتعاد والبكاء، وهرعت نحو الوافد الجديد تعانقه وتتوسل إليه أن يغفر لها انخداعها فى هذا المحتال.
لم يعد لدى كورا وزملائه القضاة أى شك، فقد أدين أرنو دو تيل، الشهير ببانسيت، "بالتدليس وانتحال اسم الغير وصفته"، وأدين كذلك بالزنا وحكم عليه بالإعدام شنقا. وتم تنفيذ الحكم فى أرتيجا بتاريخ 16 سبتمبر عام 1560.
وقبيل موته مباشرة، اعترف أرنو دو تيل، فقال إن فكرة الجريمة قد واتته لأول مرة حين خلط بعض معارف مارتن الحقيقى بينه وبينه، وإنه بعد ذلك عرف أقصى ما استطاع من المعلومات عنه، وما إن تقبلته برتراند، استطاع أن يعرف المزيد منها، وإن كانت لم تدرك تماما ما كان يفعله.
وعلى الرغم من ذلك تبقى الأسئلة قائمة. كيف استطاع أرنو أن يخدع قرية بأسرها، بما فى ذلك زوجة مارتن وعائلته؟ هل كانت برتراند مخدوعة تماما كما زعمت؟ وما الدافع وراء عودة مارتن فى الوقت المناسب، بينما بدت قضية بيير خاسرة؟
كان تفسير كورا للسؤالين الأولين أن أرنو كان محتالا موهوبا على نحو رائع، وتوضح روايته لتفاصيل المحاكمة إعجابا يشوبه الاستياء بشرير هذه القصة. فكتب القاضى: لقد كانت بحق مأساة لهذا الريفى البارع؛ بل أكثر من مأساة لأن النتيجة كانت مدمرة؛ بالأحرى قاتلة.
كان من السهل كذلك تفسير سذاجة برتراند وغفلتها، بالنظر إلى ضعف بنات جنسها اللاتى يخدَعن بسهولة بدهاء الرجال ومكرهم. علاوة على ذلك، وبحب اعتقاد كورا، فقد كانت ستنحى جانبا أى شكوك بداخلها؛ بسبب إخلاصها للرجل الذى اعتقدت أنه زوجها، وربما بسبب امتنانها لعودته.
أما بالنسبة إلى ظهور الرجل ذى الساق الواحدة فى الوقت المناسب، فقد اعترف كورا أن الأمر بدا أشبه بمعجزة. وخلص إلى أن ذلك كان من تدبير لله.
نالت رواية كورا للأحداث رضا قرائه من القرن السادس عشر، فقد أعيدت طباعة خمس كتابه "قرار لا ينسى" خمس مرات خلال السنوات الست التى أعقبت نشره، وظهرت طبعات أخرى عديدة باللغتين الفرنسية واللاتينية فى وقت لاحق من نفس القرن، كذلك نشرت رواية للأحداث سردها محام شاب يدعَى جيوم لوسيور فى عام 1561 وقدمت سردا مماثلا للقضية على نحو واسع.
غير أن معلقا معاصرا واحدا على الأقل قد أبدى بعض الشكوك بشأن ما إذا كان كورا قد اكتشف القصة الكاملة أم لا، كان هذا هو كاتب المقالات المعروف ميشيل دى مونتين، الذى أشار إلى أنه كان الأجدر بكورا أن يحذو حَذْوَ الاثنيين القدماء، الذين عندما كانوا يجدون صعوبة خاصة فى قضية ما، كانوا يطلبون من أطرافها العودة خلال مائة عام، بعبارة أخرى، كان مونتين يرى أن حكم الإعدام قاس، بالنظر إلى الأسئلة التى لم تجد إجابة.
ولكن ظلت رواية كورا، لا رواية مونتين، هى الرواية السائدة لأكثر من أربعمائة عام. بعد ذلك، وفى ثمانينيات القرن العشرين، قام صانع أفلام فرنسى ومؤرخ إنجليزى بقلب الرواية التقليدية رأسا على عقب.
كانت ناتالى زيمون ديفيس، مؤلفة كتاب "عودة مارتن جير" الصادر عام 1983، تعمل أيضا مستشارة لكاتبَى السيناريو، جون كلود كاريير ودانيال فينياه، فى الفيلم السينمائى الذى أنتج عام 1982 عن نفس القصة، وفى كل من الفيلم والكتاب، تحولت برتراند تحولا دراميا. فلم تعد ضحية احتيال أرنو، بل صارت شريكة حياته الناضجة. إنها الآن أقرب لبطلة من زمن ما قبل المساواة، امرأة وصفتها ديفيس بأنها تتسم بـ "استقلالية عنيدة، وواقعية ثاقبة بشأن كيفية محاولتها تحقيق هدفها فى ظل القيود المفروضة على واحدة من جنسها".
كانت برتراند، فى نسخة ديفيس، تعلم من البداية أن أرنو محتال، ولكنها رأت فيه الفرصة للهروب من دورها الذى يشوبه عدم الاستقرار وعدم الراحة كامرأة مهجورة، لا هى بزوجة ولا هى بأرملة، ولما تبين لها أن أرنو رجل أكثر رقة وحبيب أفضل من مارتن، جعله هذا بمنزلة "حلم تحقق، ورجلا تستطيع الحياة معه فى سلام وصداقة وحب"، ولذلك زودتْ أرنو بكل ما احتاج لمعرفته من تفاصيل عن حياة مارتن، وتأكدت من أن كل من فى القرية يعرفون أن هذا الرجل هو زوجها بلا أدنى شك.
غير أنه بمجرد أن انقلب بيير على أرنو، عاد موقف برتراند مرة أخرى فى خطر، ومن ثم لجأت إلى خطة ماهرة، إذ تظاهرت بالانحياز إلى بيير وذلك بالانضمام إليه فى التوقيع على الشكوى المقدمة ضد أرنو، وبهذه الطريقة، فى حال فوز بيير، ستتجنب سخطه وغضبه، وفى الوقت نفسه، كانت تحاول — بشكل غير ملحوظ، حتى لا يعرف بيير — أن تقوض حجته فى المحكمة برفض القسم على أن المدعى عليه ليس زوجها.
ربما يكون بيير، شأنه شأن كورا، قد عزا هذا التحوط من جانبها إلى ضعف المرأة، ولكنها فى الواقع كانت تمثيلية محسوبة وعبقري، والحق أنه لولا ظهور مارتن الحقيقى فى غير وقته، لربما نجحت خطة برتراند، واستطاعت هى وأرنو أن يعيشا فى سعادة للأبد، وهكذا، أدركت أن عودة مارتن جير الحقيقى قد حكمت بالهلاك على أرنو، لذا سرعان ما هجرت حبيبها وعانقت زوجها.
كان الشىء الأبرز بشأن قلب ديفيس للرواية التقليدية أنها لم تعتمد على اكتشاف تفاصيل جديدة للمحاكمة تناقض ما قصه كورا، وعلى الرغم من أن ديفيس اعتمدت على سجلات أخرى عديدة من سجلات المحكمة، فقد كانت روايتها قائمة إلى حد كبير على إعادة قراءة متأنية لكتاب كورا.
وجدت ديفيس فى كتاب كورا تناقضا عميقا بشأن الحجة التى تغاضى عنها المعلقون السابقون، والتى ربما يكون كورا نفسه قد حاول قمعها، على سبيل المثال، فى معرض تفسيره لأسباب تبرئة برتراند من أى تآمر مع أرنو، شدد كورا على الحاجة لعدم التفريق بين زوج وزوجة، فكتب يقول: "فى المواقف التى تكتنفها الشكوك، يقضى القانون بأن القرينة التى تصب فى صالح الزواج تغلب على أى قرينة أخرى"، ويبدو ذلك فى وقعه أقرب للإعفاء أو الغفران من كونه إعلانا مدويا يقضى ببراءة برتراند.
أشارت ديفيس كذلك إلى أن مارتن جير الحقيقى - الرجل ذا الساق الخشبية - كانت تراوده شكوك بالغة بشأن براءة زوجته. وأمام توسلات برتراند له بأن يغفر لها انخداعها بحيلة أرنو، ظل جير (ولا يزال ذلك بحسب كورا) قاسيا وشرسا، فدون حتى أن يعبأ بالنظر إلى زوجته، أجاب قائلا: لا تَجدى لنفسك العذر متحججة بأخواتى أو عمى، فلا يوجد أب، أو أم، أو عم، أو أخت، أو أخ ينبغى أن يعرفوا الابن، أو ابن الأخ، أو الأخ أكثر مما ينبغى للزوجة أن تعرف زوجها، ولا أحد يتحمل وزر الكارثة التى حلت بمنزلنا سواك".
كانت ديفيس تعتقد أن وراء تناقض كورا بشأن أرنو وبرتراند شكوكا دينية. فقد كانت البروتستانتية منتشرة عبر جميع أنحاء جنوب غرب فرنسا، وعلى الرغم من أن سكان قرية أرتيجا قد ظلوا كاثوليكيين، فقد انجذبت برتراند لمبدأ الدين الجديد الذى يقضى بأن الزوجة التى هجرها زوجها لها الحرية فى أن تتزوج ثانية بعد عام. بالطبع لم يكن هذا هو موقفها فى المحاكمة، حيث ادعت أن أرنو هو زوجها مارتن، ولكن فى الخفاء، ربما تكون هى وأرنو قد اعتمدا على أفكار بروتستانتية لتبرير أفعالهما.
كان كورا أيضا، رغم أنه كاثوليكى اسما فقط، متعاطفا بالتأكيد مع البروتستانتية، وكانت ديفيس تعتقد أن ذلك قد لعب دورا فى نزوعه الأولى لتبرئة برتراند، على الرغم من الشكوك الكبيرة التى بدأت تساوره.
وقد أصبحت ميول كورا البروتستانتية فيما بعد أكثر علانية، حتى إنه فى أكتوبر من عام 1572، وأمام نفس المحكمة فى تولوز حيث حكم على أرنو دو تيل بالموت، حكم على كورا نفسه بالإعدام بتهمة الهرطقة، لم تلقَ رواية ديفيس قبولا على المستوى العام؛ إذ اعتقد المؤرخون أنها كانت تستنتج من نص كورا ما لم يكن موجودا به، وأن كتابها كان قصة رومانسية تاريخية أكثر منه كتابا فى التاريخ. وانتقد البعض كلا من الرواية التقليدية ورواية ديفيس لتقبلهما فكرة أن الرجل ذا الساق الخشبية هو مارتن جير الحقيقى بسهولة مبالغ فيها، فمثلما فعل أرنو أمام المحكمة، ذهب هؤلاء إلى أن بيير ربما يكون قد استطاع العثور على رجل بساق واحدة، ودفع له للظهور فى اللحظة المناسبة.
ولكن بشكل عام، تقبل معظم الباحثين ما قدمته ديفيس من إعادة تأويل. فقال أحد أبرز مؤرخى تلك الفترة، وهو إيمانويل لو روى لادورى، إن كتاب "عودة مارتن جير" كان كتابا رائعا، بل وفيلما سينمائيا أفضل. حتى روبرت فينلى — الذى يعَد واحدا من أشرس ناقدى ديفيس — أشاد بكتابها بأنه مبتدع بأسلوب أسطورى، وبليغ الحجة وجذاب فى حد ذاته.
ولعل من أكثر الجوانب الجذابة فى كتاب ديفيس أنها نفسها تقر بأن تأويلها خاضع للشك، فالواقع أن كتابها يعَد، إلى حد كبير، تأملا فى الصعوبات التى تواجه المؤرخين فى محاولة تحديد ما هو حقيقى وما ليس حقيقيا. وتتضاعف تلك الشكوك بقضية مثل قضية مارتن جير؛ حيث قد يكون لدى أرنو وبرتراند - حتى لدى كورا نفسه - أسباب وجيهة للغاية لإخفاء الحقيقة.
ومن الممكن ببساطة أن تسرى الكلمات الأخيرة لكتاب ديفيس على معظم المؤرخين الآخرين الذين تم تناولهم فى هذا الكتاب. فقد كتبت تقول: أعتقد أننى قد كشفت النقاب عن الوجه الحقيقى للماضى، أم إن بانسيت قد فعلها ثانية.