لماذا طار رئيس الحزب النازى إلى اسكتلندا؟ هذا السؤال يجيب عليه بول أرون فى كتاب ألغاز تاريخية محيرة والذى ننشره فى سلسلة سلى صيامك مع الألغاز فى رمضان.
لا تزال معركة بريطانيا تذكر بوصفها "الساعة الفصلى" فى تاريخ الأمة، لكونها فترة جمعت ما بين المشقة والبطولة. ففى 10 مايو 1941، ألحقت قنابل اللوفتواف دمارا هائلا بقلب لندن. وفى نفس الليلة، تسلل طيار ألمانى بمفرده عبر الدفاعات الساحلية لبريطانيا، وهبط بالمظلة على الأرض، على مسافة ليست ببعيدة من مزرعة دوق هاملتون فى لاناركشير باسكتلندا.
عثر مزارع اسكتلندى على الطيار وهو يضمد كاحله الذى أصيب بالْتواء، وتحفظ عليه ولم يكن معه أى سلاح سوى مذْراة. ولم يقل الطيار سوى أنه فى مهمة خاصة ولا بد أن يلتقى الدوق.
وصل الدوق فى العاشرة من صباح اليوم التالى. وأخبر الطيار هاملتون، متحدثا الإنجليزية، أن هتلر يرغب فى وقف القتال، وأنه قد سافر جوا إلى إنجلترا لإجراء محادثات سلام مع هاملتون وآخرين من الإنجليز المتفهمين. كذلك قدم الطيار نفسه لهاملتون؛ فهو رودولف هس، نائب زعيم الرايخ الألمانى.
وكما كان متوقعا، نتج عن رحلة هس عناوين صحفية مثيرة حول العالم. فقد كان هس رئيس الحزب النازى، والمؤلف المشارك الفعلى لكتاب "كفاحى" وأحد أعضاء دائرة هتلر الداخلية. والمدهش أن ردود الأفعال الرسمية التى سرعان ما توالت من برلين ولندن كانت واحدة إلى حد كبير: هس رجل مجنون، على الرغم من أنه قد يكون مثاليا.
لقد تصرف من تلقاء نفسه تماما، دون علم أو تشجيع هتلر أو تشرشل أو أى شخص مسئول فى أى من الحكومتين.
منذ البداية، شكك كثيرون فى التصريح الرسمى بأن هسقد تصرف من تلقاء نفسه.
فقد اعتقد البعض أن هتلر أرسل صديقه ورفيقه القديم لعقد اتفاق سلام مع إنجلترا، لعله يستطيع أن يوجه جيوشه ضد روسيا بدلا منها. وظن البعض أن هناك سرا أكثر غموضا؛ وهو أن هس، بعيدا عن فكرة وصوله المفاجئ، كان لديه سبب وجيه للاعتقاد بأنه سيقابله أصدقاء، من ضمنهم مسئولون رفيعو المستوى فى الحكومة البريطانية.
لو كان هتلر يعلم أى شيء عن مهمة هس مسبقا، فهو لم يبين ذلك. فقد وصفت روايات شهود العيان من منتجعه الجبلى، حيث استدعى معاونين رفيعى المستوى للتعامل مع الأزمة، زعيمهم بأنه كان محزونا، والمشهد بالارتباك الشديد. وكتب رئيس هيئة أركان الحرب الجنرال فرانز هالدر فى يومياته أن هتلر "كان فى حالة من الذهول التام".
وما إن صار واضحا أن هس بين أيدى البريطانيين، حتى سارعت برلين بإصدار سلسلة من التصريحات الصحفية تأسف فيها لـ"هلاوس" هس، وتؤكد للعالم بأنها لن يكون لها أدنى تأثير على الحرب.
أمر هتلر باعتقال الكثير من رفاق هس، من بينهم خادم نائب الزعيم، كارلهينز بينتش، وصديقه ومستشاره غير الرسمى ألبريشت هاوسهوفر، الذى اعترف إلى الجيستابو بأنه ناقش مع هس المصالح المشتركة لهم فى السلام مع بريطانيا، ويعتقد معظم المؤرخين أنه من زرع فكرة القيام بمهمة سلام فى رأس هس. كذلك اعترف هاوسهوفر بأنه قد تحدث إلى هس عن أصدقائه البريطانيين الكثيرين، الذين كان من بينهم دوق هاملتون.
كذلك تم القبض على منجمين وعرافين من جميع أنحاء ألمانيا. فوفقا لتقارير صحفية نازية، ربما يكون الاضطراب العقلى الذى كان هس يعانى منه قد تركه عرضة لتأثيرهم.
من الصعب تحديد القدر الحقيقى من هذه الأحداث، والقدر الاستعراضى منها. فلا شك أن النازيين كانوا أساتذة فى الدعاية، وتطلبت منهم قضية هس كل مهاراتهم.
فقد كان إقدام الألمان على إرسال مبعوث سلام ومعركة بريطانيا على أشدها، فضلا عن إرسال مبعوث رفيع المستوى مثل هس، سيفسر حتما بأنه علامة ضعف؛ لذا كان من الضرورى بشكل واضح أن ينأى هتلر بنفسه عن هس.
ظن بعض الشهود، من بينهم بينتش، أن هتلر يمثل، وأنه يعرف عن هذه المهمة أكثر بكثير مما صرح به. وقال كل من هاوسهوفر وزوجة هس - إلزا - إنهما كانا يعتقدان أن هس قد ناقش الفكرة العامة الخاصة بالقيام بمهمة سلام مع هتلر، رغم أنه لم يزعم أى منهما معرفة هتلر بأى تفاصيل. واسترجع آخرون فيما بعد اجتماعا عقد فى 5 مايو بين هتلر وهس تعالت خلاله الأصوات؛ ربما لقيام هس بإخبار هتلر عن خطته.
كان ستالين من بين أولئك الذين لم يقتنعوا بالقصة الرسمية التى أعلنت. فعلى الرغم من معاهدة عدم الاعتداء التى وقعها عام 1939 مع ألمانيا، لم يكن يثق بهتلر.
وحين أغارت القوات الألمانية على روسيا فى يونيو، بعد شهر فقط من رحلة هس، نظر إلى الأمر كدليل على أنه كان على حق. فقد كان يعتقد أن هس حتما جزء من مؤامرة ألمانية بريطانية لإنهاء معركة بريطانيا والتعاون معا فى تدمير البلاشفة.
ولم يتخل ستالين عن شكوكه قط. فحسبما استرجع تشرشل فى روايته لتاريخ الحرب عام 1950، واجهه ستالين بشأن هس فى عام 1944، خلال لقائهما فى موسكو.
وكرر تشرشل التصريح الرسمي: هس "حالة مرضية" ورعونته ليس لها علاقة بسير الأحداث. وتحت وطأة انزعاجه من شكوك ستالين، أصر تشرشل على أنه قد عرض الحقائق كما يعرفها وأنه يتوقع أن تلقى القبول. فرد ستالين بقوله: هناك أمور كثيرة تحدث حتى هنا فى روسيا وليس بالضرورة أن يخبرنى بها جهاز استخباراتنا السرى".
وكان مضمون ذلك واضحا: لم يكن الألمان وحدهم هم من تورطوا فى مؤامرة هس، بل كان هناك جواسيس بريطانيون أيضا.
مع انهيار الاتحاد السوفييتى وفتح الكثير من أرشيفات جهاز الاستخبارات السوفييتية، استطاع المؤرخون الغربيون لأول مرة استخلاص لمحة عن نوع المعلومات الاستخباراتية التى كانت تعزز شكوك ستالين. ففى عام 1991، نشر المؤرخ البريطانى جون كستيلو نتائج دراسته لملفات هس بجهاز الاستخبارات، وخلصإلى أن ستالين كان على حق على طول الخط.
ضمت الملفات تقريرا من عميل سوفييتى وصف رحلة هس بأنها "ليست تصرفا ينبع من رجل مجنون … بل كانت تنفيذا لمؤامرة سرية من جانب القيادة النازية لعقد اتفاق سلام مع بريطانيا قبل بدء الحرب مع الاتحاد السوفييتى". وبدأ عميل آخر تقريره بالقول صراحة بأن "القصة المذاعة عن وصول هس إلى إنجلترا دون سابق إنذار غير صحيحة".
وبحسب جواسيس سوفييت، كان هس يراسل دوق هاملتون منذ فترة طويلة، على الرغم من أن هاملتون لم يكن يعلم بذلك، ففيما يبدو كان جواسيس بريطانيون يعترضون سبيل خطابات هسإلى هاملتون، ثم يرسلون الردود باسم هاملتون، مشجعين هس على الحضور. فقد كان الأمر برمته خدعة بريطانية وقع فيها نائب الزعيم الذى لم يخامره أى شك.
وجد كستيلو نظريات مشابهة فى أحد ملفات الاستخبارات العسكرية الأمريكية يرجع تاريخه لعام 1941 رفعت عنه السرية فى عام 1989. لقد كانت التقارير الأمريكية والسوفييتية متشابهة إلى حد كبير فى الواقع، حتى إن كستيلو استنتج أنها كانت حتما مستقاة من نفس المصدر. فقد ساقت كلتاها، على سبيل المثال، نفس المقولة التى ذكرها طبيب فحص الطيار الألمانى بعد أسره مباشرة. وحين أعلن الطيار أنه رودولف هس، داعبه الطبيب قائلا إن المستشفى أيضا به مريض يظن نفسه سليمان.
رأى كستيلو أن الأدلة الجديدة دمرت أكذوبة صمود إنجلترا البطولى بشجاعة ضد الهجوم النازى، وحلت محلها صورة للحكومة البريطانية وهى مترددة إزاء الحرب، فى ظل وجود حزب مهم يسعى لتحقيق السلام، ويعمل على قدم وساق لاستبدال تشرشل ليحل محله رئيس وزراء أكثر ميلا لاسترضاء هتلر.
لم يكن لدى خصوم تشرشل سوى بصيصمن الأمل فى إمكانية هزيمة هتلر؛ فبالنظر إلى أن الوصول إلى ميناء بيرل هاربر كان لا يزال يتطلب شهورا وإلى معارضة الانعزاليين الأمريكيين القوية للحرب، كان الشىء الوحيد المؤكد أن الاستمرار فى القتال بمفردهم كان سيعنى استمرار نزيف الأرواح والممتلكات.
ولم يكن منطقيا فى نظر كستيلو أن يكون هس قد هبط من السماء دون سبب للاعتقاد بأن دوق هاملتون سوف يكون فى انتظاره للاجتماع به، مهما كان أهوج، أو ساذجا، أو معتوها.
رأى آخرون، وأبرزهم المؤرخ البريطانى بيتر بادفيلد، أن الأدلة على استدراج البريطانيين لهس إلى إنجلترا مقنعة، إلا أنهم خلصوا إلى أنها ربما كانت عملية من تدبير جهاز الاستخبارات السرى، وليس مخططا ضد تشرشل. فعلى خطى ستالين، ظن بادفيلد أن مهمة هس كانت جزءا من حملة بريطانية صممت لإقناع هتلر بالتخلى عن معركة بريطانيا وتركيز قواته على روسيا بدلا منها. وخمن بادفيلد أن هتلر أيضا كانت لديه أسبابه لإرسال نائبه إلى إنجلترا. فربما يكون هتلر قد فكر أنه فى حال فشل المهمة، كان ستالين سيعتقد أن ذلك يضمن استمرار معركة بريطانيا. وكان من شأن ذلك أن يمنح هتلر الفرصة للانقضاض على السوفييت بغتة.
وبموجب هذه النظرية، كان هس لعبة فى يد كل من تشرشل وهتلر؛ كان تشرشل يأمل فى إقناع هتلر بالاتجاه شرقا، بينما كان هتلر يأمل فى إقناع ستالين بأنه سيتوجه غربا.
لأنهما أثارا جدلا واسعا مثل كتبهما، لم ينجح كستيلو أو بادفيلد فى تغيير إجماع الرأى بخصوص مهمة هس. ولعل من أسباب ذلك أن مجرد اتفاق الجواسيس الأمريكيين والسوفييت على شيء لا يعنى أنه كان صحيحا. فالأرجح، بحسب معظم المؤرخين، أن كليهما اعتمد على نفس المصادر، وأن هذه المصادر كانت خاطئة. وقد تتكشف القصة كاملة فى عام 2017، حين تفتح كل ملفات الحكومة البريطانية الخاصة بهس.
غير أنه من ملفات الجهاز الاستخباراتى السرى البريطانى التى فتحت بالفعل، يتضح أن صديق هس، ألبريشت هاوسهوفر (وليس هس نفسه) كان على اتصال بدوق هاملتون. فبعض خطابات هاوسهوفر تشير إلى علاقة وثيقة بين هاوسهوفر وهاملتون؛ وثيقة لدرجة أن كستيلو لاحظ دلالات على المثلية الجنسية.
ففى سبتمبر 1940، كتب هاوسهوفر لهاملتون، داعيا "أصدقاءه ذوى النفوذ" لـ"إدراك الأهمية التى تنطوى عليها حقيقة تساؤلى عما إذا كان بوسعكم توفير بعض الوقت لنتحدث معا". فقد كان هاوسهوفر، بعلم هس على الأرجح، يستشعر بشكل واضح إمكانية إجراء محادثات سلام.
غير أن خطاب هاوسهوفر لم يصل إلى يد هاملتون. فقد اعترضته الاستخبارات البريطانية، وتحفظت عليه لمدة خمسة أشهر. وليست واضحة أسباب قيامهم بذلك.
ربما لأن تشرشل قد أوضح بشكل قاطع أن إجراء محادثات سلام أمرٌ محال. أو ربما لأن جهاز الاستخبارات السوفييتية السرى قد رد باسم هاملتون، بقصد إلقاء طعم لهاوسهوفر ثم اصطياد هس بدلا منه.
وأيما كان الطعم، فمن الواضح أن نائب الزعيم كان متلهفا لالتقاطه. فقد كان هس يعلم مدى إعجاب هتلر الممتزج بالاستياء من بريطانيا ويعلم أيضا بكراهيته التامة لبلاشفة روسيا. وبصرف النظر عن مناقشته الأمر مع هتلرصراحة، فقد كان هس يعلم أن مهمة سلام ناجحة ستكون من دواعى سرور الزعيم. علاوة على ذلك، كانت هذه فرصة لهس لاستعادة بعضمن نفوذه الذى شعر بأنه يتلاشى. فقد كان هس رجل هتلر الثانى فى الأيام الأولى للنازية، ولكن بحلول عام 1941 بات نفوذه يتقلص نتيجة ظهور منافسين على شاكلة مارتن بورمان، ونتيجة أيضا لتركيز هتلر على الأمور العسكرية.
ولا يزال أفضل تفسير على الأرجح لدوافع هس هو ذلك الذى كتبه تشرشل عام 1950. فبعد وصف غيرة هس من الجنرالات الذين طغوا عليه، راح يتخيل أفكار هس: "إن لديهم أدوارهم ليلعبوها. ولكن أنا، رودولف، سوف أتفوق عليهم جميعا بفعل ينم عن الإخلاص الباهر وأحضر لزعيمى كنزا وارتياحا أعظم من كل ما يجلبونه له جميعا. سوف أذهب وأعقد سلاما مع بريطانيا".
كانت خطة هس للسلام مصيرها الفشل. فبدافع من الولاء والطموح، وربما بخدعة من جهاز الاستخبارات السرى البريطانى، أخفق فى إدراك أنه بحلول عام 1941 كان أوان السلام قد ولى. فلم يكن تشرشل وحده هو من صار الآن ملتزما بالحرب بقوة، بل الشعب البريطانى أيضا.
أدرك تشرشل أن مهمة هس لم يكن لها أية صلة بمسار الحرب، وهو ما بدا جليا منذ أول لحظة علم فيها بهبوط هس على أرض بريطانيا. وبعد أن التقى الدوق هاملتون بهس، هرع الدوق لتقديم تقريره إلى رئيس الوزراء. وراح تشرشل، الذى كان يخطط لمشاهدة فيلم سينمائى فى ذلك المساء، ينصت فى نفاد صبر، ثم رد قائلا: "حسنا، سواء أتى هس أم لم يأت، سوف أذهب لمشاهدة الإخوة ماركس".