كنت فى زيارة للشاعر الكبير كامل الشناوى، الذى كانت تربطنى به علاقة عميقة من الود والتعاطف والتفاهم والتشجيع، وفاجأنى الأستاذ الشناوى بسؤال لم أتوقعه، قال: إلى متى نتكلم ونغنى بالعامية؟ لماذا يا نجاة لا تغنى قصائد مختارة؟ ووجدتنى أسأله: زى إيه يا أستاذ كامل؟ قال بحماس: زى القصيدة دى، وكانت كلمات قصيدة «أيظن» للشاعر نزار قبانى.
ترتبط الفنانة الكبيرة نجاة لدى أجيال كثيرة من محبى الأغنية والموسيقى العربية، بإحساسها العالى، وقدرتها الفائقة على التفانى فى اللحن والكلمات، لذا عندما أطلت فى عام 2017 بأغنية جديدة «كل الكلام قلناه»، من كلمات الشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الأبنودى، بعد غياب وصل إلى خمسة عشر عامًا، مؤكدة مرة أخرى حسن اختيارها للكلمات الشعرية التى تعكس روحها الشفافة، ومؤكدة بصورة أكبر مفهوم أن كل الكلام قالته وغنته، وعلى رأس ذلك تأتى القصائد، فهناك تاريخ طويل من الشعر الملحن فى حضرة سيدة القصائد العربية نجاة الصغيرة.
لن نقدم حصرًا فى الحديث عن نجاة والقصيدة العربية، لكننا سنختار، لأن حصر فنانة بحجم نجاة نوع من الظلم لأنفسنا ولها ولتاريخ الأغنية العربية، لكننا نتذكر معها بعض الأغنيات والحكايات.
الشاعر العربى الكبير أبونواس
لم تكن بداية القصائد التى تغنت بها نجاة مع الشاعر العربى الكبير نزار قبانى، بل قدمت من قبل أغنيات، منها قصيدة «استغاثات» للشاعر العربى الكبير أبى نواس، وذلك فى سنة 1955، لحنها لها أحمد عبدالقادر، ومن كلماتها «أنا العبدالمقر بكل ذنب/ وأنت السيد المولى الغفور»، وهى قصيدة دينية، كان لحنها رائقًا، وكان أداء نجاة مميزًا جدًا.
محمود حسن إسماعيل.. حماك الله
أما لقاء الفنانة الكبيرة نجاة مع الشاعر المصرى الكبير محمود حسن إسماعيل، فقد كان بالنسبة إلىَّ غريب بعض الشىء، لأننى كنت أظن أن جمهور نجاة يختلف عن جمهور محمود حسن إسماعيل، لكن مثل هذا التلاقى يكشف عن ميزة التحدى التى اتصفت بها نجاة، والتى هى صفة مهمة تلحق بكل الفنانين الذين لهم شأن ولديهم طموح كبير، وقد جمع نجاة مع الشاعر محمود حسن إسماعيل لقاءان، الأول مع قصيدة «حماك الله»، وهى من ألحان حسين جنيد، بمناسبة نجاة الرئيس جمال عبدالناصر من حادث المنشية 1954، وفيها «حفظتك عيون الرحمن/ لتجدد عمر الأوطان»، أما اللقاء الثانى فكان بعد عام، وبالتحديد فى 1955 فى قصيدة «حمامة الحرم»، وهى من ألحان أحمد صدقى.
رباعيات عمر الخيام.. شكل تانى
دائمًا ما يرتبط فى أذهاننا رباعيات عمر الخيام بسيدة الغناء العربى أم كلثوم، لكن علينا أن نعرف أن نجاة غنت أيضًا من رباعيات الخيام، من ألحان رياض السنباطى، وذلك فى عام 1958، وبالمناسبة هى تختلف عن الرباعيات التى سبق أن غنتها أم كلثوم، ومما غنته نجاة «طوت يد الفجر ستار الظلام/ فانهض وبادل حديث الغرام/ فكم تحيينا له طلعة/ ونحن لا نملك رد السلام!».
نزار قبانى.. ما أقول له
أما العلاقة الفنية بين الشاعر الكبير نزار قبانى والفنانة الكبير نجاة، فقد كانت هى القمة فى القصيدة المغناة، وبفضل هذه القصيدة تستحق نجاة لقب «سيدة القصائد العربية»، فقد ارتبطت نجاة بنزار قبانى بقصائد متعددة، منها «أيظن»، التى لحنها محمد عبدالوهاب 1960، واختيرت الأغنية كأجمل أغنية عربية لعام 1960، و«ماذا أقول له»، تلحين عبدالوهاب 1965 وسجلت للإذاعة وأعيد التسجيل بعدها بأيام بسبب تلف التسجيل الأول، وأغنية «إلى حبيبى»، التى لحنها محمد عبدالوهاب فى سنة 1973، وأضيفت بعد غنائها إلى فيلم «جفت الدموع» 1975، وقصيدة «أسألك الرحيل»، التى لحنها أيضًا محمد عبدالوهاب فى سنة 1990.
وكما يعرف الناس ويستمتعون بأغنيات نزار ونجاة، يحبون أيضًا أن يسمعوا الحكايات عنها، ومن ذلك «خطاب العتاب» الشهير، المرتبط بأغنية «أيظن»، فقد أرسلها نزار قبانى إلى نجاة، فلحنها محمد عبدالوهاب وغنتها نجاة، وانتشرت، بينما كان نزار فى الصين يعمل دبلوماسيًا هناك، ولم يسمع الأغنية بعد، لذا أرسل إليها خطابًا فيه «أيتها الصديقة الغالية.. لا أزال فى آخر الدنيا.. أنتظر الشريط الذى يحمل أغنيتنا أيظن، تعيش فى الصحف.. فى السهرات وعلى شفاه الأدباء.. وفى كل زاوية من الأرض العربية.. وأبقى أنا محرومًا من الأحرف التى أكلت أعصابى.. يا لك من أم قاسية يا نجاة.. أرأيت المولود الجميل لكل إنسان وتغنيت بجماله فى كل مكان، وتركت أباه يشرب الشاى فى بكين، ويحلم بطفل أزرق العينين، يعيش مع أمه فى القاهرة.. لا تضحكى يا نجاة إذا طلبت ممارسة أبوتى، فأنا لا يمكن أن أقنع بتلقى رسائل التهنئة بالمولود دون أن أراه.. فانهضى حالًا لدى وصول رسالتى، وضعى المولود فى طرد بريد صغير.. وابعثى به إلى عنوانى.. إذا فعلت هذا كنت أمًّا عن حق وحقيقة، أما إذا تمردت، فسأطلبك إلى بيت الطاعة رغم معرفتى بأنك تكرهينه».
كامل الشناوى.. لا تكذبى
تظل قصيدة «لا تكذبى» واحدة من أجمل وأنجح القصائد المغناة فى تاريخ الموسيقى العربية، وقد شدت بها المبدعة نجاة فى فيلم «الشموع السوداء» 1962، وهو واحد من أنجح الأفلام، وسرعان ما تحولت الأغنية إلى حالة فنية لا يزال أثرها ساريًا إلى الآن.
خازن غبور.. أنا ما زلت أهواه
فى العام 1962 كانت نجاة فى أوج مجدها، كما يقولون، وكانت قد صارت متمكنة من غناء القصائد، لذا أطلت علينا بقصيدة «أنا ما زلت أهواه» للشاعر خازن غبور، وألحان عز الدين حسنى، والتى تقول فيها «أنا مازلت أهواه وفى قلبى ذكراه/ وتهفو دائما عيناى يا أمى لمرآه/ من أقصاه عن دربى ومن ياربى أغواه / ليهجرنى وينسانى كأنى لست أهواه»، وللأسف عندما حاولت أن أبحث عن معلومات عن الشاعر خازن غبور لم أستطع أن أصل إلى شىء.
جورج جرداق.. أنا لياليك يا حبيبى
فى عام 1969 كان هناك لقاء مهم، من وجهة نظرى، جمع بين نجاة والشاعر اللبنانى جورج جرداق، الذى كتب لأم كلثوم من قبل أغنية «هذه ليلتى» فى سنة 1968، والملحن حليم الرومى فى قصيدة «أنا لياليك»، والتى تقول فيها «تعالى واسهر على غنائى/ ونادى بالشوق فى ندائى/ وسامر النجم فى سمائى/ أنا لياليك يا حبيبى/ فخمرة الليل فى دنانى/ وحانة الليل فى جنانى»، كانت هذه الأغنية ولا تزال محملة بالكثير من الحيوية التى تتميز بها أغنيات نجاة، كما أنها نموذج كامل على النطق الصحيح، ومخارج الكلمات المنضبطة التى تتميز بها الفنانة الكبيرة.
سعاد الصباح.. لا تنتقد خجلى
كان آخر لقاء بين الفنانة الكبير نجاة والملحن الكبير كمال الطويل فى عام 2001، وذلك عندما غنت قصيدة «لا تنتقد خجلى» للشاعرة الكويتية سعاد الصباح، وفيها «فإننى بسيطة جدا وأنت خبير/ يا سيد الكلمات هب لى فرصة/ حتى يذاكر درسه العصفور/ خذنى بكل بساطتى وطفولتى/ أنا لم أزل أخطو وأنت قدير/ من أين تأتى بالفصاحة كلها/ وأنا يتوه على فمى التعبير».