صدر فى القاهرة كتاب سيثير جدلا حول موضوعه للفيلسوف المصرى الدكتور عزت قرنى الكتاب عنوانه الرئيسى "مستقبل الفلسفة فى مصر"، وعنوانه الفرعى "حديث فى أسس الاستراتيجية المصرية وبناء الثقافة العربية الجديدة" يقول المؤلف فى مقدمة كتابه:
"ليس فى مصر فلسفة" ويؤكد بعدها: أنه ليس لمصر فلسفة، على نحو ما أصبح لفرنسا بعد عصر النهضة الأوروبية على يد ديكارت، وعلى نحو ما أصبح لإنجلترا فلسفة فى فترة مقاربة على يد جون لوك،. .. الخ، ليذهب إلى أن ليس لمصر فلسفة جديرة بأن تسمى فلسفة وطنية ويتحقق لها وصف الجدة والابتكار والتعبير عن الذات المصرية تعبيرا
أصوليا يفجر ينابيع إمكاناتها كلها، وهى فى رأيه ضخمة غزيرة قوية لو تعلمون.
هو يرى أن مصر غارقة فى المشكلات وغائبة عن الواقع وأن مصر لم تتحقق إلا فى أقل الأوقات وذلك خلال حقبة الوثبة الكبرى من 1878 إلى 1882، وفى لحظات فردية كمذبحة دنشواى وجنازة مصطف كامل، وفى ثورة 1919 الشعبية، وفى قومة الرد على عدوان 1956 ميلادية، وفى أيام عشرة مجيدة من حرب أكتوبر، وفيما عدا هذا تنسحب مصر الحقة مكتئبة حينا، ومنتظرة حينا، ومتفائلة بما قد يلى، ويؤكد أن مصر الحقة فى عصرها الحديث لم تعلن عن ذاتها كاملة بعد، لأسباب منها أنها تنتظر الفلسفة، بل الفلسفات التى تؤصل لها المبادئ والغايات، وتقترح عليها أصولاً تختارها لنفسها.
والفلسفة فى نظر عزت قرنى هى الفكر العقلى الأصولي، وهى قائدة المجتمع، وحين يجد المجتمع المشتغلين بالفلسفة يتحدثون إليه بلغة لا يستطيع متابعها، وعن أفكار لا يجد أنها تتصل بحياته، فإنه يعرض عنهم وعنها، وهكذا تترك الفلسفة مكانها فى قيادة المجتمع إلى آخرين، ويفقد المجتمع هكذا النظرة الشمولية الكلية، لأن القادة الآخرين لا يستطيعون إلا تقديم نظرات جزئية فى الحقيقة، وقد يودون تعميمها وجعلها هى الأساس، فلا ينتج عن ذلك إلا الاضطراب فى حركة المجتمع، إن لم يكن الفشل العظيم.
يرى عزت قرنى أن الافتقار إلى توجيه الفلسفة للثقافة نوع من الاضطراب والتشتت، بل الضياع أحيانا، فى عالم الأدب والفنون التشكيلية والموسيقية وغيرها. فكما اتجه الفكر الفلسفى إلى تقليد الغرب وانتحال أفكاره الفلسفية، كذلك اتجهت الفنون عامة، وخاصة التشكيلية منها، فتاهت، لأن الغرب م يهتم، وليس له أن يهتم، أيضا اهتمام بإنتاجها التشكيلى أو غيره، مع استثناء بعض الإنتاج الأدبى ولمصلحة الغرب فى كثير من الأحيان، وبعد الضياع انتهوا إلى التساؤل: لم لا نستطيع أن نكون عالميين؟
هنا نرى عزت قرنى يقول أن الوضع صار إلى أن التواصل بين الفنان وجمهوره صعبا. ولا ننسى أن نقول، ما هكذا فعل محمود المختار العظيم، ليجعل لمصريته، أى لذاتيته وهويته، مكان القيادة فى توجيه عمله، فأخرج أعمالا فنية مصرية مضمونا عمالا وأسلوبا.
يخلص عزت قرنى إلى أن التوجه الغربى أو المستغرب، الذى وأد إمكان قيام فلسفة مصرية حقة، أدى فى النهاية إلى سيطرة اتجاه غير معلن، ولكنه مؤثر وفعال وموجه، ومؤداه أنه لا حاجة للثقافة المصرية إلى التفكير مطلقا، أى إلى بذل الجهد.. كيف؟ لأن الغرب يفكر أفضل منا، وهو يعرض فى السنوات الأخيرة أن يفكر لنا بنقودنا، وأن يرسل إلينا آلاته، على أن يقوم هو بصيانتها، وأن يوفد لنا خبراؤه، وأن تدرس بيوت الخبرة فى عواصمه مشروعاتنا، وعلينا دفع مصاريفها والإنفاق على الأسياد الغربيين الذين سيأتون لقيادتنا، وليس أدل على هذا التحول الخطير فى سياسة السيطرة الغربية من ظهور دور للنشر باللغة العربية فى كبريات العواصم الغربية تقوم بطبع بعض كتب مدارسنا بل وقواميس اللغة العربية، حتى وإن كانت مسروقة من "وسيط" مجمع اللغة العربية قد يختلف كثيرين فى مصر وخارجها مع طرح الكتاب، وهنا نستطيع فى جوانب منها أن نؤكد أن ما جاء بالكتاب له جانب من الصحة، لكن الجانب الآخر يجعلنا نتوقف عند جهود الدكتور زكى نجيب محمود والذى اختفت مؤلفاته فى السنوات الأخيرة فى ظروف غامضة، هذا ما قد يصب فى صالح ما ذكره الدكتور عزت قرني، بل إن لجوء عدد كبير من طلبة الدراسات العليا فى الفلسفة فى مصر إلى التراث الفلسفى هربا من الطرح الفلسفى ما يصب فى صالح الدكتور عزت قرني، غير أننا لا نستطيع إلا أن نحى فيلسوف نقدى قدم نقدا لأبناء مهنته ولنفسه فى كتاب يندر أن نجد له مثيل فى مصر سوى النقد الذى قدمه الراحل الدكتور رؤوف عباس فى مذكراته (مشيناها خطى) حين انتقد مناهج وطرائق الجامعات المصرية، وهذا النقد إنما هو نقد بناء منهجى عكس ما قد يراه آخرون.