إذ يهب نسيم نفحات مباركة مع رحلات الحجيج لمكة المكرمة، فإن طرق الحج تشكل مددا وفضاء للابداع والثقافة والتواصل الإنسانى والحضارى.
والذاكرة الثقافية التاريخية لطرق الحج تقول مثلا إن "درب الأربعين" كان يتقاطع مع "طريق المغرب العربى" الذى كانت رحلات الحج والقوافل التجارية تمر عبره، فيما كانت القوافل تعبر "طريق الأربعين" التجارى القديم إلى دارفور فى السودان ومنها إلى أعماق أفريقيا.
ومن هنا فإن واحة مصرية هى "واحة باريس" التى تتبع الواحات الخارجة وتقع على درب الأربعين اكتسبت ملامح مميزة بفضل موقعها على هذا الطريق التاريخى لرحلات الحج والتجارة، وانعكس هذا الموقع على طبيعة سكان الواحة وثقافتهم.
وحسب دراسات ثقافية فى مجالات التاريخ والعمارة والإنثروبولجيا أو "علم الاناسة"، فإن واحة باريس يرجع اسمها على الأرجح الى بيريس قائد جيش قمبيز الفارسى الذى هلك فى بحر الرمال العظيم بين الخارجة وسيوة، فيما يهتم سكانها بطلاء واجهات بيوتهم الطينية بألوان قوية لمناسبات الحج والعمرة فضلا عن الوظائف الجمالية.
والبيت الواحاتى المصرى ينفتح على الداخل كما هو الحال بالنسبة للبيت العربى عموما العربية ليعطى قدرا من الخصوصية، فيما تنقش على واجهته وجدرانه أشكال زخرفية تحمل الكثير منها رسوم الحج مثل الكعبة المشرفة فى مكة المكرمة والمسجد النبوى فى المدينة المنورة إضافة للجمال التى كانت تستخدم من قبل فى رحلات الحج حتى تطورت إلى البواخر والطائرات.
وهذه الألوان القوية لرسوم الحج تعكس مؤثرات افريقية جاءت عبر "درب الأربعين" شأنها فى ذلك شأن بعض المنتجات الحرفية لسكان واحة باريس كمشغولات السعف التى تبدو قريبة من مثيلاتها فى السودان.
أما "مدينة الباويطى" وهى مركز الواحات البحرية، فأخذت اسمها من "الشيخ حسن ابى يعقوب بن يحيى الباويطي"، وهو أحد علماء الدين المغاربة وقد آثر البقاء بين سكان هذه الواحة المصرية خلال عودته من الحج شأنه فى ذلك شأن عشرات من الشيوخ والمتصوفة المغاربة الذين زخرت بهم المدن والقرى المصرية.
وها هو الكاتب الروائى المصرى محمد جبريل يتناول هذه الحقائق التاريخية المعبرة عن المؤثرات الثقافية لرحلات الحج فيتحدث فى كتابه "الحنين إلى بحرى" عن تلك الأعوام القديمة التى توالى فيها قدوم المئات وربما الآلاف من متصوفة المغرب العربى يسعون إلى الحج؛ تطول الرحلة على الأقدام أو بواسطة الركوبة المجهدة ويحاولون التقاط الأنفاس فى الإسكندرية ويمرون بها مجددا فى رحلة الإياب من الحج.
وهكذا نية الإقامة أياما تمتد إلى نهاية العمر يشيدون مع المصريين الطيبين مساجد وزوايا تضاف إليها بعد الرحيل من الدنيا أضرحة ومقامات حتى "مسجد تربانة" بشارع فرنسا أنشأه المغربى إبراهيم عبده المغربى الشهير بتربانة.
وعرض محمد جبريل لتلك الرحلات الجميلة فى العديد مما كتب: ثمة أبو الحسن الشاذلى وأبو العباس المرسى وياقوت العرش وأبو حامد الغزالى وابن خلدون وابن أبى الدنيا وابن عربى وابن عطاء الله وعبد الرحمن بن هرمز وعلى تمراز وعبد الرحيم القنائى ومحمد العطار الذى ينسب له جامع العطارين.
وهكذا فهو يصف الأسكندرية بأنها "باب المغرب" فلا فاصل بينها وبين المغرب سوى الصحراء التى تتناثر فيها بلدان المغرب العربى: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.. وثمة روايات تاريخية - كما يقول محمد جبريل - تؤكد أن العنصر الوطنى فى الإسكندرية يعتمد فى أصوله القديمة على الوافدين من المغرب ربما قبل أن يقود جوهر الصقلى حملة الفاطميين إلى الأراضى المصرية.
وهكذا أيضا فإن "حى بحرى" فى الإسكندرية الذى يعشقه هذا المبدع المصرى حيث ملاعب الطفولة وأيام الصبا تحول فى خضم توالى السنين الى مركز استقطاب للباحثين عن اليقين بداية من أداء الفرائض والسنن وانتهاء بتلمس البركة والشفاعة والنصفة من الأولياء الذين تشغى بهم جوامع الحى وزواياه وأضرحته ومقاماته.
بل ان الجد الأكبر لعائلة الروائى المصرى محمد جبريل هو من المغرب وكان يدعى "قاضى البهار" وقد حدثه والده عن أن ذلك الجد جاء من المغرب واختير "قاضيا للبهار"، مثلما اختير ابن خلدون قاضيا واختير علماء آخرون لمهن مختلفة تنتسب إلى زمانها.
وقد شغلت هذه التسمية "قاضى البهار" عما عداها محمد جبريل الذى نظر لها كأنها تنتسب الى عوالم "ألف ليلة وليلة" وحكايات التراث العربى فجعل الاسم بالفعل عنوانا روائيا: "قاضى البهار ينزل البحر".
وتحول انشغاله أثناء ذلك إلى محاولة قراءة تاريخ علماء المغرب فى مدن مصر: متى قدموا؟ وكيف؟ ولماذا اختاروا الاقامة فى هذه المدينة أو تلك ببر مصر المحروسة؟ وهل كانوا جميعا من المتصوفة أو أنهم وجدوا فى الحياة المصرية ما يغريهم بالبقاء؟ وها هو جبريل يتناول فى كتابه "حكايات عن جزيرة قاروس" تاريخ العلاقات المغربية- المصرية من خلال هجرات العلماء المغاربة إلى مصر.
ومن هؤلاء المغاربة الذين جاؤوا عبر رحلات الحج من اتخذ الأسكندرية معبرا إلى مدن مصر الأخرى وخاصة القاهرة ومنهم من فضل الاقامة فيها، ومن هنا فثمة عشرات الجوامع والمساجد والزوايا والمزارات تتناثر فى امتداد الأرض المصرية تنتسب إلى علماء المغرب لتعمق اليقين الدينى وتسم معتقدات المصريين وعاداتهم وسلوكيات حياتهم بما قد لا نجده فى مجتمع آخر، كما يلاحظ الكاتب الروائى محمد جبريل.
ومخيلة هذا الروائى المصرى اخترعت أولياء آخرين كما فى قصة "الابانة عن واقعة كنز الشيخ المغربى"، أما الأولياء الحقيقيون فى حى بحرى فهم جزء من حياته وفى مقدمتهم أبو العباس المرسى الذى هو فى تسمية السكندريين "سلطان الأسكندرية".. إنها الأسكندرية التى مثلت حلقة اتصال بين علماء المغرب وطريق الحج إلى بيت الله الحرام.
ورحلات الحج حاضرة فى إبداعات روائية عربية مثل رواية "نجمة" للكاتب الجزائرى الراحل كاتب ياسين الذى كان يكتب بالفرنسية ويتناول فيها الكثير من تفاصيل رحلات الحج للجزائريين ومنهما "سى مختار ورشيد" اللذين يركبان البحر من قسنطينة قاصدين الحج فى مكة المكرمة.
وإذ يرسم كاتب ياسين الذى ولد عام 1929 فى قسنطينة وقضى فى الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1989 صورة إبداعية فى روايته "نجمة" لاستعدادات الجزائريين للحج والسفر عبر البحر الى جدة بقصد التوجه لمكة المكرمة، فإن كتب التاريخ وكتابات لمؤرخين كبار مثل الكاتب المصرى الراحل الدكتور حسين مؤنس تقول ان مصر استقبلت الكثير من الأشقاء الأفارقة القادمين عبر "طريق الحج" القديم قبل عصر النقل الجوى.
فالقوافل القادمة من عمق أفريقيا كانت تعبر على هذا الطريق حتى تنزل فى مدينة قوص بمحافظة قنا ثم تعبر الصحراء الشرقية وصولا للبحر الأحمر ومنه للحرمين الشريفين أو يصعد بعضهم مع النيل إلى القاهرة ومنها يواصلون رحلتهم الروحية مع أشقائهم من الحجاج المصريين عبر مدينة السويس.
ومن نافلة القول إن هذا الطريق للحج كان ينطوى على تواصل ثقافى عميق ضمن التواصل الحميم بين المصريين وأشقائهم الأفارقة القادمين للحج طوال اقامتهم على ارض الكنانة، كما توقف المؤرخ الراحل حسين مؤنس مليا عند ما كان يعرف "بالركب المغربي" الذى كان يخرج من فاس ومراكش للحج ويقضى بمصر عدة أشهر، فيما قد يصل عدد أفراد القافلة إلى 50 ألف مغربى.
فرحلات الحج أفضت لهذه الجغرافيا المشتركة وظهور ما يعرف "بطريق الحج التاريخي" وجعلت من مصر مقصدا للقادمين من عمق القارة الأفريقية وصولا لمقصدهم النهائى وهو الحج فى مكة المكرمة.
فقبل نحو قرن من الزمان كان الأشقاء الأفارقة من بلدان متعددة مثل تشاد والنيجر ومالى ونيجيريا والسنغال يعبرون أرض مصر من خلال طريق الحج القديم قبل عصر الطيران ويعيشون على أرض الكنانة وبين أشقائهم المصريين أياما أو شهورا قبل استكمال الرحلة للحرمين الشريفين.
ويعيد ذلك للأذهان ملاحظة المفكر الاستراتيجى الراحل جمال حمدان حول مثل هذه الروافد التى كانت تصب أثرها بهدوء فى مصر؛ "أى أنها تصب آثارا اجتماعية واقتصادية ونفسية وعلمية كبيرة ومتدفقة فى وجدان الإنسان المصرى وشخصيته"، موضحا أيضا أن طريق الحج القديم الذى يخترق العمق الأفريقى ويمر ببلدان كثيرة كان طريقا من طرق التجارة العالمية كطريق الحرير الذى كان يعبر من عمق آسيا إلى أوروبا.
وفيما تهوى الأفئدة لمكة المكرمة أو "أم القرى" ويتعلق بها كل المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها وتشتاق لها النفوس المؤمنة، فإن رحلات الحج تبقى دوما مصدر اهتمام ثقافى فى الشرق والغرب معا، فضلا عن الرؤى والتآملات الايمانية لمثقفين كتبوا عن الكعبة المشرفة وشعائر الحج.
فرحلات الحج من منظور التاريخ انطوت على اثار اجتماعية واقتصادية وثقافية متعددة بالنسبة للانسان المصرى كما انها شكلت مددا ثقافيا وابداعيا يتجلى فى كتب وقصائد شعر بعضها لشعراء من غير المسلمين، مثلما يوضح فارس يواكيم فى كتاب جديد صدر فى بيروت بعنوان: "الإسلام فى شعر المسيحيين" الذى استهل هذا الكتاب بمقولة للمبدع اللبنانى الأشهر جبران خليل جبران جاء فيها: "أنا لبنانى ومسيحى ولكنى أهوى النبى العربى وأكبر اسمه".
وفى هذا الكتاب أشعار عن عيد الأضحى يشارك فيها شعراء مسيحيون المسلمين مشاعرهم مثل الشاعر الفلسطينى الراحل وأحد رموز المقاومة كمال ناصر والمبدع اللبنانى الراحل مارون عبود ومواطنه شبلى الملاط، فيما أبدع جبران التوينى قصيدة عن مناسك الحج جاء فيها: "طاف بالبيت محرما وتهيأ للقاء الرحمن برا نقيا.. ومشى من منى إلى عرفات يذكر الله بكرة وعشيا".
ولن تنسى الذاكرة الثقافية العربية القصيدة الشهيرة عن مكة المكرمة التى كتبها شاعر مسيحى عربى هو اللبنانى الراحل سعيد عقل وشدت بكلماتها المطربة اللبنانية فيروز بصوتها العذب: "غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد يملأ أضلعى عيدا".
ومع النفحات المباركة فى تلك الأيام الكريمة يحلو تذوق كلمات هذه القصيدة الواردة فى الكتاب الجديد لفارس يواكيم ضمن ابداعات شعراء مسيحيين حيث يقول سعيد عقل الذى قضى فى الثامن والعشرين من نوفمبر عام 2014: "يا قاريء القرآن صل لهم أهلى هناك وطيب البيدا.. من راكع ويداه انستا أن ليس يبقى الباب موصودا".
وسيقى الحج دوما مددا لابداعات ثقافية، كما ستبقى طقوس البهجة للمصريين فى عيد الأضحى شاهدة على ثقافة شعب متدين بطبيعته ومحتفل بالحياة ومنفتح على الآخر.. شعب يذوب عشقا لمكة المكرمة والكعبة المشرفة ويتوحد مع هواء المدينة المنورة.