أبو سالم عبد الله بن محمد العياشى، أو "صاحب الرحلة العياشية"، اسمان شهيران فى ذاكرة تاريخ الحج، و"أبو سالم العياشى"، المولود فى شهر شعبان من عام 1037 هـ، تمثل رحلته ديوان علم وأدبٍ، الذى وصفها فقال عنها، "وقصدى إن شاء الله من كتابة الرحلة أن تكون ديوان علم لا كتاب سمر وفكاهة، وإن وجد الأمران فيها معًا فذلك ادعى لنشاط الناظر فيها، سيّما إن كان صاحب تلوين، وأما صاحب التمكين فلكل شىء عنده موقعٌ ونفعٌ لا يوجد فى غيره"، وبالفعل فإن رحلة العياشى، رحلة علم وأدب ورواية ودراية وفقه وترجمة وتصوف واجتماع وتأريخ وإجازات.
وقد خرج العياشى للحج 3 مرات، كانت الحجة الأولى وهو فى عمر 22 عامًا، وذلك سنة 1059 هـ، ولم يدون فيها شيئًا يُذكر، ويقول عن رحلته الأولى، "فكانت تلك الرحلة وهى من الله أعظم نِحلة، ولم يكن فيها كبير أمر يُعتنى بكتابة الرحلة لأجله، ويكاد علمه يستوى بجهله"، ثم خرج بعدها فى سنة 1064 هـ لحجّته الثانية، ودون فيها كتابه "اقتفاء الأثر بعد ذهاب الأثر"، ثم لم يجده كافيًا، فعزم على الحج ثالثةً فى عام 1073 هـ، وكانت من أعجب حجّاته، فلم يكن يتوقع أن يخرج فيها لكثرة ما وقع له فى إرهاصاتها من الشدة والمنع، لكن العياشى كان كثير الاستخارة، شديد الذكر لأسماء الله: الكافى، الغنى، الفتاح، الرزاق، ويقول "ومن لازم ذكر هذه الأسماء وهو يتمنى شيئًا حصل له بفضل الله".
ويطوّف بنا "العياشى"، فى رحلته الطويلة من بلاده يلجماسة بالمغرب، حتى مكة، مرورًا بالجزائر وتونس وليبيا ثم مصر، وبعدها القدس فالساحل إلى مكة، ويهمّنا مما يذكره "العياشى"، أول رؤيته البلد الحرام، فيقول "دخلنا مكة عشية يوم السبت خامس يوم من ذى الحجة، وأول يوم من السمائم كفانا الله شر حرّها، ولما نزلنا من الثنية أنخنا الركاب بالحجون، وبعدما حططنا الرحال وجمعنا الأثقال، حان وقت الاصفرار وقوى الشوق لقُرب المزار، فقال البعض: لو تأخرنا حتى تغيب الشمس وتحلَّ النوافل، فلا يقع بين الطواف وركعتيه أمرٌ فاصل، فعصى داعى الشوق منّا أوامره، ولم يعبأ بما أبدى لهم من حجّة ظاهرة".
وتابع "فقلت لهم: إن الخطب سهلٌ فى ذلك، فلم تضق فيه المسالك، فإنا لا نفرغ من الطواف حتى تحلّ النافلة، فلا يقع الفصل إلا بصلاة المغرب الفاضلة، والفصل بمثل ذلك مغتفر، فما هو إلا كمن دعا بعد الطواف واستغفر، فذهبنا نؤم البيت البيت الحرام، واثقين بنيل كل مرام، وجئنا إلى المسجد وقد حان الغروب، وكادت تطير من الفرح القلوب، فدخلنا فرحين مستبشرين من باب السلام، وشاهدنا البيت العتيق الذى تزيح أنواره كل ظلام، وقد تولّت أستاره وأشرقت أنواره، وقد شمّر البرقع عن أسافله، حتى لا يكاد الطائف يناله بأنامله، يفعلون ذلك به من زول ما تقدم الوفود، ولا يطلقون الأستار حتى تعود، فلما وقعت عليه أبصارنا، وافتضح ما زكنت من الشوق إليه أسرارنا، اقشعرّت جلودنا من هيبته، وذهلت العقول من عظمته، فلم نزد على أن بسملنا، وسلّمنا وهلّلنا، وتيمّمنا الحجر الأسود فقبّلناه، وطفنا طواف القدوم وأتممناه، ولم نبال بما نلنا فى تقبيل الحجر الأسود من الازدحام. والمورد العذب كثير الزحام".
ثم يكمل بعدها بقية سرده للنسك، ثم خروجه متوجها إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، على راحلة الشوق، ثم مجاورته المدينة 7 أشهر، وكان خلال تلك الفترة يسجل أدق الملاحظات عن الواقع الاجتماعى والعلمى والاقتصادى لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وظلت تلك عادته طوال الرحلة فى جميع الأماكن التى حط بها، ولا عجب أن صارت رحلته عُمدة الرحّالين من بعده، ينقلون عنها بالنصّ مقالته، ويقتفون فيها أثره، وينسجون على منواله، ففيها من العلم والرجال والملاحظات ما يجعلنا نقف أمام سجل تأريخى عظيم القدر، أخرجته لنا عزمات الحج، ونفحات الحرم.