بقدر ما تشكل زيارة الرئيس الفيتنامى تران داى كوانج لمصر ومباحثاته مع الرئيس عبد الفتاح السيسى حدثاً مهماً على الصعيدين السياسى والاقتصادى، فإنها تشكل قوة دفع للتعاون فى المجال الثقافى بين الدولتين الصديقتين وتعيد للأذهان تاريخا ثقافيا ثريا.
وتلبية لدعوة رسمية من الرئيس عبد الفتاح السيسى، جاءت زيارة تران داى كوانج لمصر، فيما يبحث الزعيمان فى قمتهما اليوم "الاثنين" بالقاهرة سبل تطوير التعاون بين الدولتين الصديقتين فى مجالات متعددة؛ تشمل الاقتصاد والتجارة والاستثمار والزراعة؛ فضلا عن الثقافة والسياحة.
وتأتى الزيارة بعد نحو عام واحد من زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى لفيتنام وكانت أول زيارة يقوم بها رئيس مصرى لهذه الدولة الصديقة، فيما كان الرئيس الفيتنامى قام أمس الأول "السبت" بجولة بين أحضان الحضارة المصرية القديمة فى مدينة الأقصر.
وإلى جانب العلاقات الاقتصادية والتبادلات التجارية الآخذة فى التصاعد بين مصر وفيتنام، فإن البعد الثقافى لا يغيب عن التعاون بين الدولتين الصديقتين، فيما تقدم مصر - حسب بيانات منشورة - عددا من المنح الدراسية لطلاب وباحثين فيتناميين من بينها 12 منحة لدراسة اللغة العربية بجامعة القاهرة، فضلا عن ثلاث منح بجامعة الأزهر الشريف.
وتشكل الفعاليات الثقافية والفنية فرصة ثمينة للتواصل الحضارى بين شعبى البلدين الصديقين، مثلما حدث فى سياق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان دمنهور الدولى للفلكلور التى أقيمت فى شهر أبريل الماضى بدار أوبرا دمنهور، وأبدعت فرقة "لاك هونج" الفنية الفيتنامية فى عروض حافلة بالطقوس والإشارات التى تعبر عن تراث أكثر من 50 مجموعة عرقية تعيش معا ضمن نسيج متنوع ومتناغم فى هذا البلد الآسيوى الصديق الذى يتجاوز عدد سكانه الـ92 مليون نسمة.
والتوجه المصرى لدعم العلاقات مع فيتنام جنبا إلى جنب مع دول آسيوية أخرى، مثل الصين والهند واليابان وسنغافورة وإندونيسيا، يلبى أشواق مثقفين مصريين، مثل المفكر الراحل أنور عبد الملك الذى دعا منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى "لفتح النوافذ لريح الشرق" والتواصل مع "الجناح الآسيوى الصاعد بقوة"، وأكد هذا المثقف الكبير الذى رحل فى السابع عشر من يونيو عام 2012 على أهمية ما وصفه بتحقيق الحضور الحيوى لمصر فى الشرق الآسيوى.
ولا شك أن فيتنام جزء من هذا الشرق الآسيوى الصاعد بقوة فى الاقتصاد العالمى وعلى مسرح العلاقات الدولية، كما أن ثمة حاجة لتنشيط جسور الترجمة ونقل أعمال أدبية فيتنامية للعربية التى تعانى من ندرة هذه الأعمال، فيما تشير بعض الدراسات الثقافية إلى ظهور جيل جديد من الأدباء فى فيتنام يتبنى نظرة تأملية تقوم على أفكار الفيلسوف الصينى كونفوشيوس، ومن بينها فكرة تثقيف وتطوير الذات، كما يبدو هذا الجيل الشاب مهموما بانعكاسات ثورة الاتصالات واستحقاقات العصر الرقمى فى بلد ثلاثة أرباع سكانه الحاليين ولدوا مع نهايات الحرب الأمريكية فى فيتنام.
ومن أشهر الشعراء المعاصرين فى فيتنام، الشاعر تو هو الذى تتوزع قصائده ما بين المشاعر الذاتية والوطنية والكونية مع نفحات رومانسية، كما فى قصيدته "القمر" التى يتحدث فيها عن "ابنة النهر الطرية العطرة كزهرة الأقحوان والنقية مثل ماء الصخرة فى الغابة عند الفجر".
ومن الأسماء البارزة فى الأدب الفيتنامى المعاصر نجوين فيت ها، وباو نينيه، وهما من أصحاب الروايات الكلاسيكية، وثوينج ثو هيونج التى كانت روايتها "جنة الأعمى" التى صدرت عام 1988 أول رواية فيتنامية تنشر بالإنجليزية، بينما يبرز فى الجيل الشاب اسم فونج ديب ودوان كام تى، ويعيش البعض فى المهجر مثل الشاعر والمترجم لى دن الذى يعيش فى الولايات المتحدة.
وفى عام 2016 كانت الرواية التى فازت بجائزة بوليتزر الأمريكية الشهيرة فى فئة الأدب هى "رواية المتعاطف" للكاتب الفيتنامى الأصل فيت ثانه نجوين وتتناول الحرب الفيتنامية والفترة التالية لنهايتها فى منتصف سبعينيات القرن العشرين.
وفيما يلاحظ معلقون وكتاب أن فيتنام لها مكانة خاصة فى قلوب وعقول أجيال من المصريين كرمز للمقاومة إبان ما عرف بالحرب الفيتنامية فى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فإن هذه الحرب التى كانت القوات الأمريكية طرفا رئيسا فيها مازالت حاضرة بقوة فى الأدب الأمريكى والغربى عموما كحدث كبير ترك تداعيات متعددة فى أوجه الحياة الأمريكية.
والحرب الفيتنامية تركت آثارا فى الثقافة المصرية باعتبارها كانت تعبر فى أحد أهم أبعادها عن ثقافة المقاومة لدى الشعب الفيتنامى الذى تفيد تقديرات بأنه فقد نحو مليونى شخص من أبنائه فى هذه الحرب التى كانت الترسانة الحربية الأمريكية تلقى فيها بأحدث أسلحتها وأكثرها فتكا، فيما تعرضت العاصمة الفيتنامية الشمالية حينئذ هانوى لغارات مدمرة.
وكانت مصر قد بادرت بفتح سفارة فى هانوى عام 1963 وفى ذروة ما عرف بالحرب الفيتنامية وسط تعاطف مصرى كبير على كل المستويات مع كفاح الشعب الفيتنامى من أجل الحرية كعلامة مضيئة وملهمة فى التاريخ الإنساني.
وإذا كان الاحتجاج على الحرب الأمريكية فى فيتنام قد شكل قاسما مشتركا بين المثقفين حول العالم، فقد احتفل المثقفون المصريون بانسحاب القوات الأمريكية من فيتنام فى منتصف سبعينيات القرن الماضى وتوحيد شطرى فيتنام الشمالية والجنوبية وكتب الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم قصيدة تغنى بها الشيخ إمام عيسى وتقول كلماتها: "سايجون عادت للثوار فوق الدم وتحت النار".
وقبل ذلك نعى هذا الثنائى الفنى المصرى الراحل "نجم- إمام" قائد الثورة الفيتنامية هوشى منه الذى قضى فى الثانى من سبتمبر عام 1969 وكان الفيتناميون يلقبونه "بالعم هو اللطيف"، وهو الذى قاد أيضا المقاومة ضد الاحتلال الفرنسى لفيتنام فى خمسينيات القرن الماضي، فيما أنزل الجنرال الفيتنامى المقاوم جياب هزيمة ساحقة بالقوات الفرنسية فى معركة دارت رحاها عام 1954 وذاع صيتها باسم معركة "ديان بيان فو".
ومازالت الذاكرة الثقافية المصرية والعربية تحتفظ بكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم فى قصيدته التى نعى فيها الثائر الفيتنامى الأسطورى هوشى منه الذى أطلق اسمه على العاصمة الفيتنامية القديمة سايجون وجاء فيها: "مات الصديق الوفى للخضرة والغابات.. بس فات الأمل فوق الطريق علامات.. لو سار عليها العمل طول الطريق بثبات/ تهدى الغريب سكته وتقرب المسافات".
ولن تنسى الذاكرة محكمة الضمير الثقافى الغربى للحرب الأمريكية فى فيتنام والتى أقيمت إبان احتدام هذه الحرب تحت اسم "محكمة جرائم الحرب"، بعد أن شكلها المفكر البريطانى الشهير برتراند راسل فى سياق مناهضة الحرب الأمريكية على فيتنام.
كما أن العديد من المعجبين بأسطورة الملاكمة الراحل محمد على كلاى لن ينسوا أنه رفض المشاركة فى الحرب الأمريكية بفيتنام، فيما وضعه الكاتب ديفيد رينميك فى مجلة "النيويوركر"؛ جنبا إلى جنب مع أعظم عظماء أمريكا مثل الشاعر والت ويتمان والبطل الشعبى ديفى كروكيت والفنان الموسيقى دوك الينجتون.
اسم فيتنام حاضر بالفعل بقوة فى الثقافة العالمية والغربية بعد أن أفضت الحرب الفيتنامية لتداعيات عميقة فى الحياة الأمريكية واقترنت بظواهر اجتماعية مثل "الهيبيز" كظاهرة اقترنت بحراك اجتماعى وسياسى فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، وسنوات الحرب الأمريكية فى فيتنام، فيما تشكلت جبهة من المثقفين فى الغرب ضد هذه الحرب.
وإذا كان عالم الفيزياء البريطانى الكبير ستيفن هوكينج الذى قضى فى الرابع عشر من شهر مارس الماضي، قد وقع على عريضة احتجاج فى عام 1968 ضد هذه الحرب، فإن الفنان الأمريكى بوب ديلان الذى فاز بجائزة نوبل فى الآداب عام 2016 قد توهج إبداعه فى الشعر والغناء والتلحين فى هذا المناخ الثقافى الأمريكى المعادى للتدخل العسكرى فى فيتنام.
وفى كتابه "الأبواب" يتحدث المؤلف جريل ماركيوز عن فريق الأبواب "ذى دورز" الموسيقى- الغنائى الذى بلغ ذروة شهرته فى أمريكا والغرب خلال النصف الثانى من ستينيات القرن العشرين كصيحة احتجاج فى عالم الموسيقى أثناء الفترة التى يصفها بالأيام الرديئة حيث الحرب المسعورة التى كانت تشنها أمريكا فى فيتنام، حتى نجح ثعلب السياسة الأمريكية هنرى كيسنجر فى التوصل لترتيبات لخروج القوات الأمريكية من فيتنام وإنهاء حالة كانت تهدد استقرار المجتمع الأمريكى.
وللكاتب الأمريكى الراحل ويليام وارتون الذى قضى عام 2008 قصة عنوانها "هاجس الطيور" التى كانت قصته الأولى وتحولت إلى فيلم سينمائى بعنوان "بيردى" عن صديقين يعودان للوطن الأمريكى من حرب فيتنام، فيما يعانى أحدهما من اضطرابات نفسية بعد أن تسلط عليه هاجس التحول إلى طائر.
وشأنها شأن الثقافة المصرية نجحت الثقافة الفيتنامية فى الحفاظ على أصالتها ولم تسمح لأى ثقافة دخيلة بإلغاء خصائصها الوطنية مع قدرة على التنوع والانفتاح والتفاعل الإيجابى مع الثقافات الأخرى، فيما تنفرد فيتنام بين دول جنوب شرق آسيا بمتحف للأدباء فى عاصمتها هانوى يضم أوراقا ووثائق ومتعلقات شخصية للكتاب والشعراء فى هذا البلد الثرى ثقافيا والمنفتح حضاريا.
ولعل دراسة التجربة الفيتنامية تشير إلى المرونة الفائقة فى التعامل مع متغيرات العصر ومخاصمة التحجر الأيديولوجى أو التشنج العقائدى الذى يفضى للموات ويلحق أضرارا جسيمة بجماهير الشعب.
فمنذ بداية الشطر الثانى لثمانينيات القرن العشرين قررت فيتنام التحول من الاقتصاد القائم على المركزية والتدخل الشامل للدولة إلى اقتصاد يقوم إلى حد كبير على آليات السوق وخلق بيئة اقتصادية جاذبة للاستثمارات الخاصة والأجنبية، بما فى ذلك الاستثمارات الأمريكية على الرغم من موروث الذكريات المريرة "للحرب الأمريكية فى فيتنام".
ورغم كل المرارات التى خلفتها هذه الحرب، فإن فيتنام والولايات المتحدة دخلتا فى "علاقة شراكة شاملة" عام 2013 وكانتا قد أقامتا علاقات دبلوماسية كاملة منذ عام 1995، فيما تفيد تقديرات وإحصاءات معلنة أن الولايات المتحدة باتت ثانى أهم الشركاء التجاريين لفيتنام ولا يسبقها سوى الصين.
وفيتنام هى المورد الثالث عشر للولايات المتحدة حاليا، كما تفيد إحصاءات معلنة بأنها ثانى أكبر مصدر للملابس للسوق الأمريكية، بينما استقبلت"جمهورية فيتنام الاشتراكية" ثلاثة رؤساء أمريكيين هم بيل كلينتون فى عام 2000 وجورج بوش عام 2006 وباراك أوباما عام 2016.
وهكذا أيضا لم تغلق "فيتنام الاشتراكية" الأبواب امام الاستثمارات الأمريكية والأجنبية عموما مادامت ستفيد الشعب الفيتنامى الذى قاتل ببسالة فى الماضى ضد القوات الأمريكية لكنه يمكنه أن يستفيد الآن من استثمارات أمريكية فى مجالات متعددة وخاصة تكنولوجيا المعلومات.
وهكذا وكما لاحظ معلقون بحق، فإن "العالم يتغير ولا أحد يمكنه أن يعيش للأبد فى ذكريات الماضى غافلا عن متغيرات الحاضر"، ومن هنا مثلا فإن الفيتناميين نعوا رحيل السناتور الأمريكى جون ماكين الذى قضى أمس الأول "السبت" وكان أحد من شاركوا فى عمليات القصف الأمريكى لفيتنام إبان الحرب الفيتنامية، غير أن هذا المرشح السابق للحزب الجمهورى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية نشط فيما بعد على صعيد عملية تطبيع العلاقات بين بلاده وفيتنام.
وواقع الحال أن مصر وفيتنام معا تنطلقان بقوة فى طريق النمو والصعود الاقتصادي، فيما كانت دراسة مستفيضة صدرت بالإنجليزية لمؤسسة "برايس ووتر هاوس كوبرز" بعنوان "العالم فى عام 2050: هل سيستمر التحول فى القوى الاقتصادية العالمية؟" قد أكدت هذه الحقيقة.
فقد أكد الباحثان جون هوكسورث ودانى شان فى هذه الدراسة أن مصر صاعدة لتكون قوة من القوى الاقتصادية الكبرى فى العالم وأوضحا أن مصر التى كانت تحتل فى عام 2014 المركز الثانى والعشرين عالميا فى إجمالى الناتج المحلى حسب تصنيفات هذه الدراسة، ستتقدم صاعدة للمركز السادس عشر بين أكبر القوى الاقتصادية فى العالم عام 2050.. أما فيتنام فستكون بين الدول الأسرع نموا خلال هذه الفترة.
ثمة غنى غير عادى وتنوع ورحابة وتجدد فى العلاقات بين مصر وفيتنام على الطريق نحو المستقبل الأفضل، والدولتان معا تمنحان العالم أجنحة لمدارات الأمل والعمل.