رحل المفكر السورى الكبير جورج طرابيشى مخلفا وراءه نتاجا فكريا ضخما، ويحسب للطرابيشى أنه ناقش الكثير من الأفكار التى كنا نظنها ثابتة لا تتغير، ففى موسوعته "نقد نقد العقل العربى" حاور الطرابيشى المشروع الفكرى الموسوعى لمحمد عابد الجابرى الذى بدأه منذ الثمانينات تحت عنوان "نقد العقل العربى".
وكانت البداية عندما لاحظ جورج طرابيشى أن عابد الجابرى يضع مشروعة على أسس غير دقيقة أو علمية لبناء هرمه النقدى للعقل العربى، يرجع فى الأساس إلى قسمة العقل العربى إلى العقل المشرقى والعقل المغربى مع تغليب المغربى على المشرقى، فابن رشد أفضل من ابن سيناء والفارابى، وابن حزم والشاطبى أفضل من الشافعى والغزالى، وابن باجه أفضل من الفارابى وهكذا دواليك.
وفى "نظرية العقل" ذكر طرابيشى إن كان مشروع الجابرى فى خمسة عناوين، فإنه سيفتحها من جديد بأسئلته، فبدأ بمناقشة التأصيل النظرى الذى يضعه الجابرى للعقل.
وتحت العنوان الثانى يقدم طرابيشى بحثا مطولا حول، التوظيف المركزى الاثنى لنظرية الحضارات الثلاث اليونانية والعربية والأوروبية الحديثة التى وحدها أنتجت ليس فقط العلم، بل أيضا نظريات فى العلم، وأنها وحدها التى مارست ليس فقط "التفكير بالعقل" بل أيضا "التفكير فى العقل".
ويلاحظ طرابيشى أيضا أن العابدى يحاول مرارا التأكيد على أن العقل المغربى يمتلك بنى معرفية منفصل ومستقلة عن العقل المشرقى وأن هذه البنى المعرفية هى أقرب إلى فلسفة أرسطو العقلية والعملية، وهذا ما حاول طرابيشى أن ينفيه ويؤكد على وحدة العربى الإسلامى فى كل أسسه المعرفية.
لقد حاول المؤلف تفكيك إشكاليات الجابرى وتصحيحها برؤية تتسم بوسطية ومنهجية علمية رصينة تنم على اطلاع معرفى وثقافى واسع يتمتع به المؤلف، وخصوصا نقطة الرجوع إلى الكتب الأصلية وليس النقل عن أطراف ثالثة كما يفعل الجابرى فى العادة.