فى كتاب "ماذا علمتنى الحياة" يقدم لنا الكاتب والمفكر الكبير الدكتورجلال أمين، لذى رحل عن عالمنا بالأمس، بعد رحلة طويلة من العطاء، سيرته الذاتية التى تمكنا من خلالها إلى قراءة المجتمع الذي نشأ فيه، من خلال ظروف نشأته ونشأة والده ومن ثم أولاده وأحفاده، إذا بنا أمام مرآة تعكس صورة مجتمعه، وإذا بالكتاب الصادر عن دار الشروق للنشر، يصبح سيرة حياة أجيال.
من بين ما قدمه جلال أمين فى كتابه "ماذا علمتنى الحياة" ما يذكره من تفاصيل حول ظروف مجيئه إلى الحياة، ففى فصل "ولادة متعثرة" يكشف المفكر الكبير ما لم يعشه، لكنه علم به من خلال والدته، التى روت له مرارا بافتخار قصة حملها به، ومحاولات والده لإجبارها على الإجهاض.
يقول جلال أمين فى "ولادة متعثرة":
تبدأ قصتى حتى من قبل أن أولد. ذلك أن والدتى كانت لا تكف عن رواية قصة حملها بى بافتخار، حتى رسخت قصة هذا الحمل فى ذهنى على نحو لا يمكن معه نسيانها. كانت فخورة بمقاومتها لأبى، وما لجأت إليه من حيل وألاعيب حتى تحتفظ بى فى أحشائها وتتيح لى فرصة الوجود.
كان أبى لا يريد من الأولاد إلا اثنين أو ثلاثة، فانتهى به الأمر إلى أن أصبح أبا لعشرة، مات منهم اثنان فى المهد وبقى ثمانية. على أنه عندما وصل الأمر إلى احتمال مجىء الثامن، وهو أنا، لم يطق أبى صبرا وقرر أنه آن الأوان لأن يضع حدا للأمر وأن يجبر والتى على الإجهاض، ولا أدرى بالضبط سر تمسك أمى بهذا الطفل الثامن، فقد كانت لديها وفرة من الأولاد والبنات، من المؤكد أن المصريين كانوا، ولا يزال أكثرهم يعتبرون كثرة الأولاد مفخرة للأم. لكن الأرجح أن الأمر كان يتعلق بوجه خاص بعمتى التى كانت، على حد قول والدتى، تحسدها أشد الحسد لكثرة ما أنعم الله به على والدتى من الأبناء الذكور، ومن ثم كان تمسك والدتى بى يرجع فى الأساس إلى رغبتها فى إغاظة عمتى.
لم يكن الإجهاض فى هذا الوقت – منتصف الثلاثينيات – أمرا سهلا، وكان على أبى أن يستعين فى ذلك بطبيب أجنبى، إذ ربما لم يكن هناك طبيب مسلم فى ذلك الوقت يقبل أن يقوم بهذه المهمة، فرتب أبى موعدا مع طبيب إيطالى.
لم يكن من السهل على أمى أن تعصى أبى، ومع ذلك فقد حاولت عدة مرات الهرب، مرة إلى بيت أخيها فى العباسية، ومرة إلى بيت أختها فى قريتهما "زاوية البقلى" فى المنوفية، حتى اضطرت فى النهاية إلى الرضوخ لتهديدات أبى، فانصاعت لأمره وارتدت ملابسها لتذهب معه إلى الطبيب.
وفى الطريق إلى محطة المترو كان أبى، كعادته يتقدم أمى ببضع خطوات، إذ لم يكن من المألوف أن يسير الرجل فى الشارع بمحاذاة زوجته، حتى وصلا إلى المحطة. فلما جاء القطار استقل أبى العربة الأمامية على أن تصعد أمى إلى عربة السيدات، وهى عبارة عن ديوان صغير فى آخر القطار كتب عليها "سيدات" ولا تتسع لأكثر من ست أو ثمان من النساء. واستجمعت أمى كل شجاعتها وتركت أبى يصعد وحده إلى القطار وعادت أدراجها إلى المنزل، فإذا بأبى، لدى محطة الوصول، يجد نفسه – فى ذلك الموقف المحرج – ينتظر نزول أمى من عربة السيدات فلا تنزل، ويكتشف أن زوجته قد خدعته.
بإمكانى أن أتصور الصياح والشجار اللذين لا بد أن عما البيت لدى عودة أبى، بما فى ذلك، بلا شك، التهديد بالطلاق. ومع ذلك لم تفتر عزيمة أبى، وعاد إلى محاولته، مستخدما العنف مرة واللين والملاطفة مرة، حتى رضخت أمى بالفعل للذهاب إلى الطبيب.
جلست أمى أمام الطبيب الإيطالى وسمحت له بأن يبدأ الكشف. ثم تحرك فى قلبها غضب غريزى جعلها تدفع الطبيب بقدمها بكل قوتها صائحة فى ثورة: "روح يا شيخ، هو أنا حبلى فى الحرام؟" فتراجع الطبيب خائفا وقال، معلنا استسلامه وبلكنة أجنبية ظلت دائما مبعثا للضحك فى أسرتنا على مر الأيام كلما عادت أمى رواية القصة: "يا خبيبى أنا مالى؟ عايز تسقط تسقط، عايز تخبل تخبل!" وعادت الزوجة إلى البيت منتصرا، والأب خائبا، ولم يعاود أبى الكرة مستسلما لمشيئة الله.
هكذا جئت إلى الوجود فى 23 يناير 1935.