بين يدى الآن كتاب مهم بدأت فى قرأته مؤخرا هو "أساطير مقدسة.. أساطير الأولين فى تراث المسلمين" لـ وليد فكرى، والصادر عن دار الرواق للنشر والتوزيع، والذى طرح سؤالا مهما هو: كيف صارت الأساطير مقدسة؟
يقول وليد فكرى في كتابه:" عندما أراد النضر بن الحارث، أحد ألد أعداء الرسول محمد من القرشيين، تكذيب ما فى القرآن الكريم من قصص، قال لقومه : محمد ما يقص عليكم إلا أساطير الأولين)، لم يقل (أخبار) أو (أنباء) الأولين، وهما مصطلحان يفيدان حقيقية وقوع ما يروى، وإنما وصف القصص القرآنى بانها "أساطير" تكذيبا لها، فالأساطير فى اللغة هى الأباطيل من الحديث".
وتابع الكتاب:"بينما كان أعداء الدين الجديد من القرشيين يتلقون قصص القرآن بالإنكار والسخرية، كانت الآيات التى تذكر أقواما غابرين، كعاد وثمود وأقوام إبراهيم وموسى، وأشخاصا كالخضر وذى القرنين، والنبى سليمان وملكة سبأ، وأحداثا جليلة كخلق العالم وهبوط آدم من الجنة، تستفز فضول المسلمين الجدد لمعرفة مزيد من التفاصيل حولها.. لهذا لم يكتف بعضهم بما كان الرسول محمد يفسره لهم، وبحثوا فى كتب السابقين (بالذات اليهود) عن تفاصيل شافية".
وتصاعد هذا الشغف بالمعرفة عندما أسلم أحد أبرز أحبار اليهود، وهو (كعب الأحبار) فى عهد عمر بن الخطاب، وصار يحدث بما فى التوراة وشروحها وكتب علماء دينه السابق، ويقال أن ابن الخطاب كان يتركه يتحدث بذلك تأليف لقلبه، فضلا عن أن المسلمين كانوا مطمئنين ألا حرج عليهم فى ذلك، لما نسب للرسول محمد من قوله (حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج" والمقصود هنا التحديث عنهم للعظة بغير تصديق أو تكذيب.. كذلك فإن ثمة رواية تقول إن عبد الله بن عمرو بن العاص قد عثر، بعد موقعة اليرموك فى الشام على حقيبتين بهما بعض كتب أهل الكتاب، فكان يحدث الناس بما فيها.
ويستطرد وليد فكرى:"لنترك هذا الزمن ونتحرك عبر الزمن قرنين من الزمان، عندما كانت الدولة الإسلامية قد اتسعت لتضوى تحت رايتها شعوبا وأمما عريقة، كمصر والشام والعراق وفارس، ولتحكم، إلى جانب المسلمين، أهل أديان متنوعة، كالمسيحية واليهودية والصابئة والمجوس وغيرهم، ولتصبح حواضر الإسلام – أى مدنه الكبرى – مراكز لاستيراد وتصدير الثقافة، بخاصة مع ازدهار حركة الترجمة لكتب الحضارات السابقة".
أدى ذلك بطبيعة الحال إلى تسلل بعض محتويات ثقافات الأقدمين للفكر الإسلامى الذى تنوعت مدارسه وتوجهاته، وامتزج بعضها بالشق الدينى ليتمخض عن مدارس فكرية متنوعة، ولم يكن علم تفسير القرآن، وعلم الحديث ببعيدين عن هذا التأثير، فقد تأثر بعض المفسرين والمحدثين بما جاء فى كتب أهل الكتاب من كتابات ذات صلة بالقصص القرآنى، فاعتمدوها فى رواياتهم وتفسيراتهم، وصاروا يروونها على الناس فى مجالسهم وكتاباتهم، وبينما مال من يصفهم المشتغلون بالعلوم الدينية بـ "العوام" لتصديقها، انتقدها آخرون كالمفكر البارز فى مذهب "النعتزلة" أبو إسحاق النظام" الذى قال "لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين، وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا فى كل مسألة، فإن كثيرا منهم يقول بغير رواية على غير أساس"، وكلما كان لمفسر أغرب عندهم كان أحب إليهم.
هذه الأخبار يصنفها المتخصصون فى الأحاديث النبوية وتفسير القرآن بالإسرائيليات، هل تبدو الكلمة مألوفة للقارئ؟ المعنى الشائع لها هو "بعض ما تسلل من كتابات اليهود / بنى إسرائيل للقصص الدينى الإسلامى" ولكن لنكون أكثر دقة فإن مصطلح "الإسرائيليات" يعنى (كل ما قد جاء فى كتب أهل الكتاب – بالذات اليهود – وهو ينقسم إلى أمور تتفق مع القصص الإسلامى فيصدقها المسلمون، وثانية لا يصدقونها ولا يكذبونها لعدم وجود ما يثبتها أو ينفيها، وأخرى مرفوضة إما لتعارضها مع نصوص صريحة وإما لعدم معقوليتها.
لكنى لا أرى اقتصار نسب هذه الروايات على كتب أهل الكتاب دقيقا، فالقارئ المتأمل فيها يدرك وجود تأثيرات لثقافات أخرى من بقايا حضارات العالم القديم، ففى قصة الخلق – مثلا- نقرأ عن ملاك يحمل العالم على كتفيه، وهو هنا يشبه قصة العملاق أطلس الذى عاقبه زيوس كبير آله اليونان بحمل قبة العالم، وفى قصة ذى القرنين نجد تداخلا مع رحلة الإسكندر المقدونى، والثور الذى تخرج قرونه من الأرض يشبه (الثور السماوى) فى التراث البابلى وخبر الشمس التى يجرها 360 ملاك فى رحلة يومية من الشرق إلى الغرب يقارب كثيرا أسطورة إله الشمس المصرى القديم رع ورحلته على مركب الشمس.
وهكذا نرى أن مصطلح الإسرائيليات قاصر جدا عن وصف تلك القصص التى اعتمدها كتاب مسلمون مشهورون، مثل القزوينى ، والمسعودى، والثعلبى النيسابورى، وغيرهم، فى كتاباتهم عن القصص الدينى، حتى وإن كانوا هم أنفسهم قد نسبوا بعض رواياتهم لكعب الأحبار، ونسبوا بعضها الآخر لبعض الصحابة كعبد الله بن عباس وأبى هريرة.