من بين القصص التى يخبرنا بها كتاب "الشبقة ومهووسات أخريات" هى قصة آن دو لينكلوز أو "نينون" التى منحت فولتير، أشهر فلاسفة فرنسا، ألفى فرنك ليشترى لنفسه مجموعة من الكتب، إضافة إلى أنها كتبت الشعر قبل وفاتها، فمن هى؟.
من بين أنواع النساء وقصصهن التاريخية، يخبرنا الكاتب إيرفينغ والاس، فى كتاب "الشبقة ومهووسات أخريات" الصادر عن دار المدى للنشر، فى طبعته الأولى عام 2007، والذى نقله إلى اللغة العربية المترجم محمد حنانا، أنه فى صالة الحظايا التاريخية ثمة العديد من الشخصيات المدهشة. ولكن كان هنالك واحدة فقط هى آن دو لينكلوز التى عرفت بـ"نينون".
كانت آن دو لينكلوز التى عرفت بـ"نينون"، حظية كلاسيكية إن جاز لنا وصفها بذلك. والحظية هى المرأة التى تقيم علاقة جنسية من أجل مقابل من المال مع نبلاء القوم أو الأشخاص البارزين اجتماعيا، وهى أقرب إلى شخصية "الخليلة" إلا أن "الحظية" تمتلك استقلالية أكثر من الخليلة، وتمتع بحق اختيار العشاق، فلا يوجد ما يلزمها بأى شىء.
كانت آن دو لينكلوز التى عرفت بـ"نينون" دقيقة الجسم طويلة القامة متناسقة الجسد، ذات شعر أحمر وعينين سوداوين واسعتين وشفتين ممتلئتين مثيرتين. كانت حلوة الشمائل متقدة الذهن متضلعة بالموسيقى والأدب وفى الجماع. عاشت خمسة وثمانين عاما، مارست خلالها مئات الحيوات.
ولدت آن دو لينكلوز، أو "نينون" فى باريس عان 1620. كانت والدتها منفرة ومتدينة وربة قاسية حاولت أن تغرس فى نيون مخافة الله. وكان والدها، بحسب "فولتير" موسيقيا متواضعا فقيراً، عزز دخله بأن عمل قوادًا، وقد جعل من ابنته، وهو العارف بأذواق الرجال، طفلة محكنة بأمور الدنيا. ففى الثانية عشرة من عمرها تعلمت الرقص والعزف على الهاربسيكورد وقرأت أعمال ميشيل مونتيه (1533 - 1592) وهو كاتب ومفكر فرنسى عاش فى التأمل والقراءة، ثم طاف أوروبا، ودون أفكاره واختباراته فى كتابين "المحاولات" و"يوميات".
عمل والد نينون على تمجيد مزايا مذهب المتعة، وهو هو الدس الذى تعلمته آن دو لينكلوز جيدًا. توفى والدا نيون قبل أن تبلغ العشرين من عمرها تاركين لها إرثا صغيرا استثمرته بحكمة مما حق لها دخلا يكفيها. وقبل وفاة والدها كانت قد قابلت العديد من أصدقائه - كتاب، جنود، نبلاء صغار - الذين يحتشدون فى ضواحى باريس، والآن وقد أصبحت حرة طليقة جذبت اهتمامهم.
أقامت نينون علاقات مع جمع غفير، كان أولها مع الكونت الشاب غاسبار دو كولينى. وبالتزامن مع هذه العلاقة أقامت علاقة مع آبى ديسيا ومع المارشال ديسترى، وعندما غدت حاملا أعلن كل منهما شرف أنه أحبلها. وقد حسما موضوع أبوة الطفل المنتظر بإلقاء النرد، وهكذا نشأ ابنها الأول فى كنف الماريشال ديسترى.
سرعان ما تولت نينون شئون أشهر صالون فى باريس. فقد أشهر الزوار لرؤيتها والاستسلام لها. وقد قسمتهم نينون إلى ثلاث فئات: "الدافعون، الضحايا، المفضلون". كان ذكاء نينون أيضا مثيرا للإعجاب.
ومن أشهر المواقف التى يذكرها كتاب "الشبقة ومهووسات أخريات" هو أنه حينما كان أحد النبلاء مكرها على الفرار من باريس لجأ إلى تقسيم مدخراته البالغة عشرين ألف كراون بين كاهن وبين "نينون"، ورجاهما الاحتفاظ بالمال إلى حين عودته. وعندما تمكن من العودة إلى باريس فزع حينما علم بأن صديقه الراهب أعطى نصف المال إلى الفقراء لكسب سمعة الإحسان، فعلق النبيل المفلس على ذلك بقوله: "إذا كان هذا ما لقيته من قديس فما الذى أنتظره من خاطئة؟"، لكنه دهش حينما وجد نينون تنتظره مع العشرة آلاف كراون كاملة لم تمس.
من المواقف الأخرى التى يذكرها الكتاب، هو أنه حينما تقدمت نينون فى العمر، وبلغت الأربعين، كان ينظر إليها كمرجع متخصص فى الجماع، ولكى تزيد من دخلها آنذاك أنشأت مدرسة وأطلقت عليها اسم "مدرسة البسالة"، وكان منزلها هو حجرة الدارسة، وكان الشباب من الطبقة الأرستقراطية يتعلمون لديها كيف يصبحون رجالا كما رغبت أمهاتهم اللواتى ذهبن إلى نينون لتسجيل أسمائهم.
ومن المواقف المؤثرة فى حياتها، هو أنها حينما بلغت الـ65 عاما، وضعها القدر أمام موقف لا تحسد عليه، وهو أن ابنها الذى تربى بعيدا عنها، كان من بين هؤلاء الشباب الذين يتعلمون فى مدرستها، ابنها غير الشرعى "فيير" وقد قبلته بشرط أن يخفى والده عنه هذا الأمر، إلا أنه مع استمرار تعلمه فى المدرسة، وقع فى غرامها، وعبر عن شغفه بها، فأبعدته عن الصالون، لكنه أصر على العودة مجددا، فقست عليه وقالت: "انظر لقد مضى على قدومى إلى هذا العالم 65 عاما، فهل تظن أن باستطاعتى الإصغاء إلى تصريح بالحب؟ ألا تعتقد أن هيامك ما هو إلا سخافة؟". وبهذه الكلمات أبعدته عنها، لكنه عادة مرة أخرى، فقررت أن تكشف له السر، فاستدعته، وقبل أن تبدأ حديثها حاول التودد إليها، فانبرت قائلة بغضب: "هل تدرك من أنا ومن أنت؟" ثم أخبرته بالحقيقة، وعانقته، وظل فى دهشة مما سمعه، ففر إلى الحديقة وانتحر.
أما عن عظماء الناس يأتون للتودد إليها، ومنهم على سبيل المثال: جون باتيست بوكلان الملقب بـ"موليير"، وهو كوميدى مسرحي، وشاعر فرنسي، ويُعد أحد أهم أساتذة الكوميديا فى تاريخ الفن المسرحى الأوروبى ومؤسس الكوميديا الراقية، ومارى آروويه، الذى يعد من أشهر فلاسفة فرنسا، والمعروف باسم فولتير، وعـاش خلال عصر التنوير، وعُرف بنقده الساخر، وذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الطريفة ودفاعه عن الحريات المدنية خاصة حرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان، ويقال بأن فولتير حينما ذهب لرؤية نينون كان حينها فى سن الثالثة عشرة من عمره، وقيل بأنها منحته ألفى فرنك من أجل أن يشترى لنفسه مجموعة من الكتب.
توفيت آن دو لينكلوز، أو "نينون" فى عام 1705، وكتبت وهى على فراش الموت آخر أشعارها، والتى تقول فيها: أُعرض عن تعازيكم،ولا أبالى بالآمال التى تقدمونها: ولأنى مسنة بما يكفى لأموت، فلماذا يتعين على أن أرغب فى العيش؟.