رسائل مارسيل بروست.. كتاب طرحته دار الرافدين للنشر، خلال مشاركتها فى معرض القاهرة الدولى للكتاب 2019، فى دورته الخمسين، اليوبيل الذهبى، يتعرف فيه القارئ العربى على العديد من تفاصيل حياة مارسيل بروست، وكواليس كتابته لرواية "البحث عن الزمن المفقود".
تقول دار الرافدين للنشر، فى بيان صحفى، إن البعض من القراء يعتقدون أن مارسيل بروست لم يكتب سوى ملحمته الروائية "البحث عن الزمن المفقود"، لكنه كان قد نشر مجموعة بعنوان "المسرات والأيام"، ترجمها إلى العربية جمال شحيذ، وصدرت عام 1896، وكتب مقدمتها أناتول فرانس، الذى تنبأ فيها للشاب الذى يبلغ آنذاك 25 عامًا بأنه سيثير الإعجاب بقدرته على الصراحة والصدق وتوغله فى الحياة بكل تفاصيلها.
رواية البحث عن الزمن المفقود للكاتب مارسيل بروست.
دائمًا يثار السؤال: من قرأ رواية "البحث عن الزمن المفقود"، والتى تحتوى على 500 شخصية رئيسية وما يقارب الثلاث آلاف اسم علم، ظل القراء منذ وفاة كاتبها عام 1922 يبحثون عن أصولها وعلاقاتها والأماكن التى عاشت فيها؟، صدرت الترجمة العربية للرواية بأجزائها السبعة المرة الأولى فى منتصف السبعينيات، حيث قام بالترجمة المترجم السورى إلياس بديوى، الجزء الأول بعنوان "جانب منزل سوان" صدر عام 1977، إلا أن المشروع توقف عند الجزء الرابع الذى صدر عام 1982، بعدها يعود المترجم فى منتصف التسعينيات ليترجم الجزء الخامس، وبعد وفاته يكمل المترجم جمال شحيذ ترجمة الجزء السادس الذى صدر عام 2003، والسابع الذى صدر عام 2005.
ولد مارسيل بروست فى 1871 لطبيب مشهور وأم يهودية من عائلة ثرية، كانت تهوى القراءة وزيارة المتاحف، فى التاسعة من عمره حين أصيب بمرض الربو، الذى رافقه حتى اليوم الأخير من حياته، فى مراهقته تعلق بعدد كبير من النساء، لكن لقب المخنث ظل لصيق به، لم يخرج من البيت إلا ليلاً، أصيب بانهيار عصبى بعد وفاة والدته وهو فى الرابعة والثلاثين، عاش معظم حياته ممددا على السرير فى غرفة أضيئت بمصباح أخضر اللون، وعزلت جدرانها بمادة تمنع وصول أصوات الخارج إليه، أدمن الوحدة والانعزال بناءً على وصايا أمه، التى كانت تخاف عليه بشدة.
بعد واحدة من خلواته الليلية، جلس فى غرفته يقرأ مرتجفًا من البرد، قدمت إليه أمه فنجانًا من الشاى مع صحن من الكعك الذى ما أن وضع قطعة منه فى فمه حتى غمره شعور بالنشوة، أغمض عينية ليسترجع ماضيًا كان قد أعتقد لسنوات أنه دُفن بين رُكام الذاكرة.
أعاده طعم الكعك إلى بيت عمته، التى كانت تحضر له كل صباح هذا النوع مع كوب من الشاى، ليتجه بعدها إلى مكتبه الخشبى يخرج الأوراق ليخط الجملة الأولى فى روايته: "كثيرًا ما أويت إلى سريرى وكانت عيناى أحيانًا حالما أطفئ شمعتى، وتغمضان بسرعة لا تدع لى متسع من الوقت أقول فيه "أننى أنام".
إن البحث عن الزمن المفقود التى استغرق تأليفها 15 عامًا استغرقت معظم حياة مارسيل بروست، وهو يؤكد فيها وجهة نظر مفادها أن الحياة التى يعيشها الإنسان وهو يتطلع إلى الأمام، لكنه يفهمها وهو ينظر إلى الوراء. وفى مرحلة من مراحل حياتنا، يكون ما هو رواءنا أكثر إثارة للاهتمام مما هو أمامنا
فى البحث عن الزمن الضائع يحاول مارسيل بروست تذكر الماضى مع أمه، وأيام طفولته الأولى، حين كانت أمه أحيانًا ترفض الصعود إلى غرفته لتطبع قبلة على جبينه قبل أن ينام، أراد أن ينتشل الأيام الماضية من هوة النسيان، فى مساء السابع من نوفمبر عام 1922، قال لأحد أصدقائه إنه إذا عاش هذه الليلة فإنه سيثبت للأطباء أنه أقوى منهم، ومن بين هؤلاء الأطباء كان أخوه روبرت، الذى توسل لمارسيل من أجل أن يعالج فى عيادة طبية، ما حدا بمارسيل منعه من دخول البيت.
فقد كان مارسيل بروست يتشاءم من عيادات الأطباء، فهو يتذكر أن أمه أخبرته أنها كادت تموت عند ولادته، وأنه ولد عليلاً ومحتاجاً للرعاية، كانت تنتابه مخاوف ليلية، وكان يغرق كل مساء فى حزن عميق، فهو ضعيف البنية شديد الحساسية، وفوق هذا هو مدلل والدته، التى ارتبط بها بشكل عنيف، وقال لأمه ذات يوم أنه يفضل أن تنتابه أزمة الربو وتظل أمه بالقرب منه لا تفارقه.
حكايات غرامية فى البحث عن الزمن الضائع
فى البحث عن الزمن الضائع هناك ثلاث حكايات غرامية، تشارلس سوان، القيادى فى الحزب الاشتراكى يهيم حبا باوديت، ويتمكن من الزواج منها فى النهاية، بعد أن يعانى سنوات من الحب والغيرة. ابنتهما جيليرتى، هى أول قصة حب للروائى مارسيل بروست قبل أن تتزوج صديقه المقرب سان لوب، بعدها هناك قصة الحب المعقدة، التى يعيشها الروائى مع ألبيرتينى سيمونيت، والتى انتهت بهروب الفتاة، وموتها بعد ذلك.
مارسيل بروست ووليام شكسبير
تبدأ حكايات الحب تتواصل ومعها الغيرة والشبق الجنسى، والشذوذ، والحب المستحيل، حيث يقدم لنا مارسيل بروست كوكبة متنوعة من أعظم الشخصيات حيوية فى تاريخ الأدب، لا نجد لها مثيلا إلا مع أعمال وليام شكسبير.
رفض الناشرون مخطوطة الجزء الأول، وتساءل الناشرين لماذا يحتاج الكاتب إلى ثلاثين صفحة ليصف تقلبه فى فراشه قبل أن ينام. نشر "بروست" الرواية على حسابه لتصدر عن دار صغيرة. كان أندريه جيد رفض المخطوطة عندما قدمها بروست لدار غاليمار، لكنه اعتذر عن تصرفه الأحمق كما وصفه فيما بعد.
بدأ كتابة رائعته بعد جدال مع الناقد الشهير سانت بوف، الذى كان يرى أن حياة الفنان تتحدد فى أهمية عمله الأدبى أو الفنى.
كان بروست، رجل انعزالى جداً، كما يقول فى العديد من رسائله، كرس معظم ساعات الاستيقاظ لعمله الروائى، تحدث فى الرسائل دون توقف، مثلما كان يتحدث فى البيت مع مديرة منزله سيلين، التى كان يتحدث معها، وهو ممدد على السرير متكئًا على وسادتين، بينما كانت تقف عند حافة السرير.
يصف أندريه جيد، رسائل بروست بأن صاحبها: "أراد دائما أن يقول كل شيء، كما هو الحال فى كتبه، والذى نجح فيه عن طريق اللانهائية من الأقواس والخطوات والتغيرات فى المزاج".
فى رسائل مارسيل بروست، التى ترجمها ربيع صالح، نجد الملاحظة الدقيقة، وتكشف لنا أيضا تطور خيوط الفكرة عند مارسيل بروست، يضيف اندريه جيد: "يمكن للرسائل أن تكون كاشف لشخصيته، لأنه كان يرسلها دون أن ينقحها عكس ما كان يفعل فى روايته".
أهمية رسائل مارسيل بروست
تظهر الرسائل، المكتوبة على مدى سنوات تبدأ من 1855 وتنتهى 1922 كيف كان مارسيل بروست صاحب مزاج مختلف ومتقلب وظروف صحية متغيرة، كما أنها تسلط الضوء على جوانب مختلفة لشخصيته. وخصوصا عندما يكون كريماً وممتعاً فى بعض الأحيان: "على الأقل سأكون فرحاً أن تلك العيون الجميلة قد استقرت على هذه الصفحات"، أو بليغ بدرجة مدهشة: "أصبحت خلوتى أكثر عمقا، وأنا لا أعرف شيئا عن الشمس".
تكشف رسائل مارسيل بروست عن شخصية الكاتب المهتم بآراء قراءه رغم خلافه مع هذه الآراء فى بعض الأحيان، ففى واحدة من الرسائل يكتب إلى صديقه والتر بيرى أن فتاة أميركية كتبت له عن روايته البحث عن الزمن المفقود: (لن أعيد عليك ما كتبته فى رسالتها باستثناء الخاتمة: "بعد ثلاث سنوات من القراءة المتصلة فإن الخلاصة التى خرجت بها هى ما يأتى، لم أفهم شيئا على الإطلاق. عزيزى مارسيل بروست، أرجو أن لا تكون مغروراً وانزل لمرة واحدة من برجك العاجى، وقل لى فى سطرين ماذا أردت أن تقول للقارئ". أعتقد أننى لن أرد على رسالتها، فكيف لى أن أجعلها تفهم فى سطرين ما لم تفهمه فى ألفين من السطور، أو ما لم أحسن التعبير عنه فى ألفين من السطور، سوف تعتقد الفتاة الأميركية بأننى متكبر متفاخر.
وفى رسالة أخرى نجده فرحاً مثل طفل وهو يتلقى المديح عن روايته: "صديقى العزيز. إنك شخص مذهل ورائع، إنك تقول أن كتابى ساحر. سوف تجد أنه يرضى ما لديك من حس أخلاقى".
سيعطى كتاب رسائل مارسيل بروست الحافز للعديد من القراء الذين يرغبون بقراءة روايته "البحث عن الزمن المفقود"، فالرسائل تكشف لنا تطور كتابة الرواية المثيرة للجدل، وأيضا قوة الإرادة لدى بروست وشغفه بالفنون وحرصه على الدقة المتناهية فى الكتابة.
مارسيل بروست.. شهيد الرواية
يوصف مارسيل بروست بأنه شهيد الجمال، الذى ضحى بحياته من أجل أن يكمل روايته، حيث نقح أجزائها الأخيرة وهو على فراش المرض. لم يتنازل عن ساعة كتابة، من أجل اللقاء بشخص ما أو مجاملة صديق، لأن ذلك كما يخبرنا فى رسائله يشبه التضحية بالحقيقة لمصلحة الوهم، يكتب جان كوكتو الذى حضر وفاة بروست، وقرأ بعضا من رسائله أن: "الأوراق التى سجل عليها مارسيل بروست ملاحظاته وأفكاره ورسائله تبدو لنا مثل ساعة تدق على الذاكرة".