صدر عن الدار المغربية العربية كتاب "اللغة ... الثقافة.. المعرفة.. إشكالات ورهانات" للمفكر المغربى المرموق سعيد يقطين، والكتاب حمل هموم المؤلف الوطنية والعربية، وإن كانت التجربة المغربية ظاهرة فيه بقوة عبر صفحات الكتاب.
يذكر سعيد يقطين أنه منذ القرن الخامس الميلادى إلى القرن الثامن كانت المعرفة تتصل بإدراك والعمل على امتلاك المعلومات التى تتصل بالحياة الصحراوية وبيئتها القاسية بناء على التجربة والمعاينة، وكانت عامة تتصل بمختلف أنماط الحياة، لكن مع تطور الدولة الإسلامية وظهور العلوم منذ القرن الثامن وحتى القرن التاسع عشر، اتخذت بعدين اثنين:
دنيوى ودينى: يقوم على الرواية والدراية، ويتمثل فى امتلاك معرفة محددة فى اختصاصات معرفية تشكلت فى نطاق المدينة الإسلامية، ويحرص أهل المعرفة، بحسب الحقل الذى يشتغلون فيه على تنظيمها وتصنيفها وتعميقها والعمل على تداولها من خلال المؤسسات التى كانت قائمة (الجوامع – المدارس - الزوايا...).
صوفى: ويبرز فى المعرفة بالله التى خصص له مفهوم "العرفان" الذى كان يعنى فى الفترة السابقة مطلق المعرفة.
أما فى العصر الحديث فقد امتد الفهم التقليدى للمعرفة إلى الخمسينيات من القرن العشرين، وبعد ذلك، وتحت تزايد تأثير ترجمة الفكر الفلسفى الغربى، ارتبطت المعرفة بالهاجس العلمى وصارت متصلة أكثر بالتفكير العلمى فى كبريات القضايا الفكرية والوجودية (المعرفة العلمية).
ومنذ أواخر القرن العشرين (التسعينيات) اتصلت بتكنولوجيا المعلومات والتواصل، وصارت تتحقق من خلال مجتمع المعرفة الذى يسهم فى تنظيم المعلومات وإنتاجها لتصبح قابلة للتداول على نطاق واسع يتعدى الحدود الجغرافية للفضاء الذى تنتج فيه.
من المعرفة العامة المرتبطة بالحياة اليومية تم الانتقال إلى معرفة خاصة هدفها تحصيل وتوسيع مجال المعلومات باستخدام العقل والتجربة إلى التفكير فى المعرفة وفق مناهج البحث العلمي، إلى إنتاج المعرفة، فى نطاق مجتمع المعرفة، القابلة للتداول على المستوى العالمى بتوظيف تقنيات المعلومات والتواصل.
ويذهب يقطين إلى أن تدريس العربية والبحث فيها تعرضنا لإشكاليات متعددة، نظرا لغياب سياسة تدريس العربية والبحث فيها: نظرا لغياب "سياسة لغوية" محددة تنطلق من تصور ملموس لوضع العربية فى المجتمع العربي، خضع تدريس العربية والبحث فيها لمسارين اثنين هما:
فقه اللغة والنحو: لقد تم الاعتماد على هذين العلمين التقليديين فى بحث اللغة العربية وتدريسها منذ بدايات القرن العشرين، واستمر ذلك إلى الثمانينيات من القرن نفسه. ورغم محاولات تجديد النحو العربي، وتبسيط القواعد، فقد ظل الاتجاه السائد يتمثل فى تكرار نموذج النحو القديم. إن نظام تعليم العربية من خلال النحو التقليدى يجعل من امتلاك هذه القواعد وتطبيقها غير متيسر للجميع: تحفظ القواعد ولكنها لا تطبق إلا فى الامتحان. وهو ما تم الانتباه إليه فى الثمانينيات فتم تغيير كتب النحو، وبدأ الاهتمام بدراسة العربية فى ضوء العلوم اللسانية الحديثة من السبعينيات.
اللسانيات: جاءت الدراسات اللسانية العربية مستفيدة من اللسانيات الغربية، وعملت على تقديم دراسات بديلة عن النحو التقليدي: لقد حاولت تجديد التعامل مع اللغة العربية، وتم فى وقت لاحق، الاستفادة من بعض إنجازاتها فى تدريس العربية لكن الملاحظ هو أن عطاء اللسانيات العربية، عموما، ظل محدودا ولم ينفذ إلى المشاكل الحقيقية التى يعانى منها البحث فى العربية أو تدريسها. لقد انشغل اللسانيون العرب بقضايا جزئية تتصل ببعض أبواب النحو العربى أو بعض الجزئيات اللغوية. فلم تقدم لنا رؤية جديدة تجيب عن المشاكل الحقيقية التى تتصل بالعربية وهى قيد الاستعمال، أو تجدد النظر فى الزمن فى العربية أو أقسام الكلم،،، وما شاكل ذلك من القضايا الكبرى. وحتى عندما تتحقق اجتهادات فى هذا المنحى، تظل حبيسة كتاب للقراءة. لذلك لم تتبلور اتجاهات لسانية تعنى بالعربية موضوعا واقعيا، كما لم تظهر اختصاصات تتصل باللسانيات النفسية أو الاجتماعية، وهى التى كان يمكن أن تثير القضايا الحيوية للعرب فى علاقتهم بلغتهم.
إن النحو العربى ظل تقليديا، وكل المحاولات التجديدية ظلت بمنأى عن التفعيل والانتقال إلى الميدان لجعل النحو العربى متيسرا وقواعده بسيطة وواضحة ومختزلة. كما أن اللسانيات ظلت، وكأنها تدرس اللغة العربية فى ضوء التيارات اللسانية الحديثة فقط من أجل إثبات صحة وأهمية هذا التيار أو ذاك.
فلم تتم الاستفادة من إنجازاتها ونتائجها لتتحول إلى واقع ملموس، من خلال ترجمتها ونقلها من المستوى النظرى والتحليلى إلى التطبيق تربويا وديداكتيكيا.
فى خاتمة الكتاب يرى المؤلف أن مشاكل اللغة والثقافة والمعرفة، وما يتصل بها من إشكالات ورهانات ذات طابع مشترك بين الدول العربية جمعاء، وهى فى الوقت نفسه خاصة بكل دولة على حدة. فكيف يمكن التصدى لها جميعا وأشتاتً؟ إن كل دولة عربية منشغلة بقضاياها "الوطنية" وهى تسعى للبحث عن "الحلول" المتصلة باللغة والثقافة والمعرفة، أو للوصول إلى تسوية ما مع المتطلبات التى يفرضها واقع التحولات الذى تعيشه.
لا جرم أن المثقفين والكتاب والباحثين والفنانين العرب يبدعون فى نطاق الانتماء العربى العام، وهم يتوجهون فى مختلف أعمالهم وأنشطتهم إلى القارئ العربي، وبذلك يسهمون فى تطوير الثقافة واللغة والمعرفة بشكل غير مؤسسى وبمنأى عما يتحقق فى كل دولة عربية على حدة.
لطالما خضنا أحاديث عن "العولمة". كما يفرضها علينا العصر، وعن ضرورتها واشتراطاتها، ألا يمكننا الحديث عن "العوربة" باعتبارها مطلبا لتوحيد الجهود، والتصورات، والتخطيط، والتدبير، لربط الوطنى بالعربي، تمهيدا للانخراط الإيجابى فى العالمي؟.
إنه السؤال الذى يجعلنا نعمل من أجل تطوير التصورات التى حلم بها العربى فى عصر النهضة، وتحولت أحلامه إلى كوابيس سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية. ما يزال ذلك الحلم قائما، وعلينا التفكير فيه بما يفرضه علينا العصر المعرفى الذى نعيش فيه. اليوم وغدا، وبما يستدعيه إعطاء اللغة العربية موقعها فى الحياة العملية والعلمية، بهدف الإسهام فى إنتاج المعرفة، والمشاركة فى الثقافة العلمية.
هذا هو الرهان الأكبر الذى يتطلب انخراط الجميع فيه، باحثين وخبراء وأكاديميين ومؤسسات، بوعى جديد، ورؤية مغايرة تتأسس على قراءة نسقية لتاريخنا وفكرنا الحديث، وعلى نقد ذاتى لأنماط الوعي، وأشكال الممارسات التى لم تؤد إلا إلى إضعاف لغتنا، وتهميش ثقافتنا، وتأخر معرفتنا. ولم يكن لذلك غير النتائج الوخيمة التى لم يتولد عنها إلا التقهقر والتخلف والانقسام وأخيرا كل المآسى التى يتخبط فيها كل الوطن العربي، والتى لا يقدر أى كان كيفية تجاوزها أو الخروج منها.