ملأت عصرها وأثارت جدلاً، جذبت القلوب وسرقت العقول، كان صالونها علامة مضيئة فى عصرها، تلك هى مى زيادة التى رحلت مع نهاية مأساوية وآلام وغصة كبيرة فى الحلق، أخيراً كشف واسينى الأعرج بدعم من روز خليل المتخصصة فى الدراسات النسوية العربية فى مونتريال والمكتبة الوطنية الفرنسية، وليالى العصفورية، المذكرات المجهولة لمى زيادة التى سطرت فيها جهود الأهل للحصول على الثروة، والأصدقاء الذين تخلوا عنها، فى قصة مأساوية اختتمت بها حياتها، أقرب إلى مشاهد فيلم زهايمر لعادل إمام الذى أدخله أبناؤه فى دوامة الزهايمر لكى يحصلوا على أمواله، هكذا فعل أقرباء مى زيادة معها، هنا تبدو مى زيادة قوية تغلبت على محنة العصفورية "مستشفى الأمراض العقلية فى بيروت"، لتخرج قوية منها إلى درجة أن تحاضر فى الجامعة الأمريكية فى بيروت ثم منها إلى القاهرة لتدفن فيها مع والديها.
رحلة البحث عن ليالى العصفورية كانت شاقة بالنسبة لواسينى ومن قدموا له الدعم، لكننى أقف عند فقرة واحدة فى مقدمة واسينى ذكر فيها أنه أقيم مزاد وهمى لبيع أوراق مى فى شقتها بوسط القاهرة، وفى حقيقة الأمر أن من أعلن عن المزاد أراد أن ينبه إلى أن أوراق مى ومقتنياتها قد بيعت لأحد هواة اقتناء أوراق المشاهير.
تبقى ليالى العصفورية عملاً أدبياً يروى الأيام الأخيرة فى حياة مى وانطباعاتها، وقد نشرها تحت عنوان "ليالى إيزيس كوبيا.. ثلاثمائة ليلة وليلة فى جحيم العصفورية" عن دار موفم للنشر فى الجزائر، لا شك أنك عزيزى القارئ فى شغف لأن تقرأ مقتطفات من هذه الليالى.
تذكر مى عن هذه الليالى ما يلى:
"أخيراً دونتك يا هم قلبى، فأين أهرب بهذا الخوف الذى سيضيف لى رعباً جديداً؟ تحدثت فيه عن علاقاتى السوية وغير السوية مع محيطى، عن الناس الذين عرفتهم وعرفونى. الذين أحببتهم، والذين ركضوا ورائى. حكيتُ عن الذين زجوا بى فى دهاليز الجنون وجعلوا من العصفورية سجناً يموت فيه الناس بصمت. حتى النفس الأخير، قلت بعض ما أحرقنى وحولنى رماداً فى ثانية واحدة، لكنى لم أنتقم من أحد كيفما كانت درجة أذاه لي. لا يمكننى أن أكون فى رتبة من أخفق فى أن يكون هو، فانتحل صورة عدوه.
يحق لى أن أتلاشى كما الغيمة، داخل حبى الذى شكلنى، وفى عمق وهمى الذى صنعته.
يحق لى أن أحلم ولو ثانية واحدة قبل أن أغيب نهائياً.
وتروى عن ذهابها القصرى لمستشفى الأمراض العقلية ما يلى:
"أخرجونى من بيتى قبل الساعة الرابعة بعد الظهر، وأوصلونى إلى مكانى فى القطار، وغابوا عنى، فبقيت جالسة حتى عاد الدكتور والرجلان الآخران، وعندئذ قام القطار، إذا نحن فى منتصف الساعة السادسة، ومنذ الأسبوع الأول فى بيروت، ذكرت الدكتور جوزيف، بوعده، وقلت له أنى أرغب فى الرجوع إلى بيتي. فأنا بخير و لا أحتاج إلى أى شىء. فطيب خاطرى ببعض الكلمات، وأبقانى عنده شهرين ونصف شهر على مضض منى، وأنا أطالبه بالعودة. حتى استكمل برنامجه فى أمرى، فأرسلنى إلى "العصفورية" بحجة التغذية، و باسم الحياة ألقانى أولئك الأقارب فى دار المجانين أحتضر على مهل وأموت شيئاً فشيئاً، وفى الصفحة الثالثة، تفاصيل أخرى لا تؤكد فقط على المخطوطة ولكن أيضاً على الجريمة وعلى مسؤولية ابن عمها جوزيف زيادة: لست أدرى إذا ما كان الموت السريع هيناً. أما الموت البطئ طيلة عشرة شهور و أسبوع من التغذية القهرية تارة من الفم، بتقطيع لحمة الأسنان، وطوراً من الأنف بواسطة النربيج ليصب ما يصب من الداخل نزولاً إلى الحلق فالصدر. فذلك موت لا أظن أن إنساناً يحتمل الإصغاء برباطة جأش إلى وصفه. ومع ذلك، كان أقاربى فى زياراتهم النادرة، يستمعون إلى بسرور و أنا أصف نكالى وشقائى راجية منهم عبثاً أن يرحمونى ويخرجونى من العصفورية.
لكنك ستقف عزيزى القارئ أمام مى وهى تصف مسيرة حياتها إلى مأساتها فى العصفورية على النحو التالي:
"أنا مي.
مارى إلياس زيادة. ولدت فى 1886، من خلطة دينية ومكانية غريبة، أم فلسطينية أرثوذكسية نزهة معمر، من مرتفعات الجليل الساحرة وقناديلها العاشقة، وأب مارونى لبناني، إلياس زخور زيادة، من ضيعة شحتول، التى تزداد كل يوم ارتفاعاً لتقترب أكثر من سماء الله.
عمرى اليوم تخطى عتبة الخمسين سنة بقليل. 56 سنة. لا شهادة لى و أنا أكتب هذه اليوميات، إلا صرختى التى لن يسمعها أحد غيري، أو ربما سمعها عابر لا أعنى له الشئ الكثير: لقد قتلنى أهلي، ومحوا جسى بتربية دينية هم من اختاروها لى لحمايتى من زمن خطير كان يرتسم فى أفق داكن. طفولتى المعاندة سرقتها منى مدارس الراهبات التى صلبت جسدى حتى حولته إلى حجر أصم، يابس، بلا تربة ولا رمل و لاماء، على الرغم من الغوايات والطراوات التى كانت تحيط بجسد كنت أكتشفه على مرايا، الحمام مرتسماً كالغيمة الشهية التى لا أملك القدرة على وضع حدود لها، ولا أن ألمسها أو يلمسها غيري، فى كل مراحل حياتي، حتى بدء الفجيعة.
استلمتنى من يدى أمي، مدرسة اليوسيفيات فى الناصرة مدينتى المعشوقة التى كتموا صرختها، حتى عامى السادس. هذه المدرسة منحتنى القدرة على تحصين النفس من الخطايا، على الأقل هذا ما بدا لأمي. ثم اقتادنى و الدى إلى داخلية مدرسة راهبات الزيارة، فى عينطورة، فى مرتفعات الجبل، ببيروت، حيث العزلة الكلية، والموت الصامت لكل ذرة حية فى الجسد. فى كل ليلة، كنت أرى وجهي، وشفتي، وأتحسس نهدى المنتفخين، ونهود صديقاتى النافرة، وهى تهتز بغواية وشهوة، وهن يرتدين ألبسة النوم، وكأن هذه الأجساد ولدت، لا لتكون مشرقة ومانحة للحياة، ولكن لتمحى. ولا وظيفة لها سوى التخفي، الحرص عليها من أية لمسة ذكورية، فتشيخ فى النهاية مثل أشجار الأرصفة اليابسة، دون أن تستنشق أى عطر خارج الجو المؤكسد الذى تعودت عليه. كنت أريد لهذا النهد أن يكبر بسرعة، وينام فى كف غير كفي.
سنة واحدة مرت ثقيلة فى عينطورة، كانت كافية لأن تجعلنى أخاف من جسدى وليس عليه، كما علمونا.
أنا مي.
أنتهى فى ثانية كل ما حلمت به كعاشقة مراهقة، كلما رأت شمساً تشرق، ظنت أنها لها وحدها. تفتح ذراعيها عن آخرهما وتستقبل فرح الأشعة ورذاذ الصباحات الربيعية. منذ أكثر من مائة ساعة و أنا بدون أكل و لا شرب، لدرجة أن نسى بطنى شيئاً اسمه الجوع والشبع؟ كل ما يأتوننى به، أرفضه، أرميه بعيداً لكى لا أصاب بالغثيان، أو أتركه على حاله حتى تأتى العاملة، الخالة مادلين، وتأخذه وهى تتمتم:
- حرام عليك يا ابنتي. هذا انتحار.
- ما عليهش يا خالة مادلين. ربما كان هذا أهون من مذلة الجنون.
- لكنك تنتحرين يا ابنتي، والرب لا يسعده ذلك.
- يا خالة، وين نحنا وين الرب؟ منسيون فى هذا الظلام الفادح.
بالكاد أرد عليها، وهى عند عتبة الباب، تدفع بعربة الأكل للخارج. ثم تغيب كما الظل فى صمت.
فعل الأطباء والممرضون والممرضات المستحيل معي، ليرجعونى إلى رشدي، كما قالوا. بعدها التجأوا إلى وسائلهم القاسية والعنيفة التى تخترق حرمة جروح الجسد الخفية والظاهرة، بدون حق. أنا لم أكن مجنونة. كنت فقط مصاب بآلام الفقدان التى لا دواء لها سوى الإنصات لها بهدوء ومحاولة لمسها كما نلمس الضوء، من أجل احتضانها.
أنا مي.
قلبى ممتلئ رماداً.
هويتى ممزقة لكنها حية. كل ليلة ألملمها، وأرقعها، فيأتى صباحاً من يفرفطها بكلمة واحدة، بحركة، بنظرة، ويسحب كل خيوطها إلى كومة، فى فوضى بلا شكل ولا هوية.
بحجة التغذية و باسم الحياة، ألقانى أولئك الأقارب فى دار المجانين، أحتضر على مهل و أموت شيئاً فشيئاً كحشرة. لست أدرى إذا ما كان الموت السريع هنيئاً. أما الموت البطئ طوال أسبوع من التغذية القهرية، تارة من الفم بتقطيع لحمة الأسنان وطوراً من الأنف بواسطة النربيج ليصب ما يصب من الداخل نزولاً إلى الحلق فالصدر، فذلك موت لا أظن أن إنساناً يحتمل الإصغاء برباطة جأش إلى وصفه. ومع ذلك، كان بعض أقاربى فى زيارتهم النادرة لي، يستمعون إلى بسرور و أنا أصف نكالى وشقائي، راجية منهم عبثاً أن يرحموني، ويخرجونى من العصفورية. مللت من جملتهم المكرورة، هى نفسها جملة جوزيف يوم زج بى إلى العصفورية.
كانت مى زيادة سيدة حالمة مثقفة وواعية عكس قريناتها فى جيلها، أحاسيسها عميقة فى ليالى العصفورية هناك فلسفة وحكمة ربما فجرت من خلالهما طاقتها وعبرت عن ذلك بقولها:
أشعر أنى ظالمة أحياناً، وغير عادلة فى أحكامي.
لم يكن كل شئ أسود.
لا أدرى لماذا لا أرى من القنينة إلا منتصفها الفارغ أبداً؟ لماذا لا أرى الجهة العامرة؟ أضحك. أضحك فى ظلامي. ينتابنى وجها أبى و أمي، فأصمت، واكتفى باقتفاء خطواتهما فى هدوء وسكينة. شوى شوى يا با. الله يرضى عليك، تعبت من الركض وراءك. أكاد أصرخ من شدة التعب، و أنا اركض وراءه بين المدارس. يمشى ولا يلتفت؟ هل كان أبى يسمعنى ويتعمد ذلك لكى أستعمل مخزونى المخبأ من الطاقة المختفية؟ ربما. كلامه يجعلنى أقول. نعم كان يتقصد ذلك. كان يكرر دائماً على نفس الجملة: فينا شئ كامن يا ماري، لا نراه لكنه موجود، وعلينا أن نوقظه فى اللحظات الأصعب التى تحاذى اليأس. لم أسأله عن التفاصيل على الرغم من أنى أعرف جيداً رأيه.
أركض وراءه، حتى ألحق به.
- ما قلت لك إنك قادرة على اللحاق بى وتجاوزي.
مشكلتى الوحيدة أن عقلى ظل منفصلاً عني، حراً كما عصافير الجليل.
حب والدى كان كبيراً، وحبى لهما كان أكبر، لكنه مع الزمن، أصبح حبى أقل من أوامر و دروس الابتدائية فى مدرسة الراهبات اليوسفيات، فى مدينة الناصرة، ثم فى داخلية عينطورة فى جبل لبنان، ثم فى مدرسة الراهبات اللعزاريات فى بيروت. كانت الضوابط ثقيلة وكان على من أحبونى لهم، أن يعرفوها. وجهوا حبى للرب أكثر من والدي.
عبرت مى عن مأساتها و مأساة كل مثقف عربى حقيقى بقوة بالكلمات التالية:
محنتى ليست خاصة. ليست ترفاً بائساً. هى محنة المثقف العربى الذى سكن ويبدو إلى الأبد ازدواجية مقيتة، سترافقه إلى قبره بعد أن قبل بها و استكان لها. يصرخ كما المؤذن على ساحل مهجور، أو أجراس كنيسة ثقيلة، فى الحب، فى السياسة، فى الاجتماع، وكلما تعلق الأمر بموقف حقيقى وبسيط لا يكلف إلا صدقة حينما يقف أمام المرايا القلقة، انسحب و أصبح غير معنى بكل ما قاله وحكاه، ويمسح كل آلامه فى الأخرين. إلى اللحظة لم أسمع أن العقاد أعاد النظر فى نفسه حينما اتهمنى بالجنون ولم يكن مطلوب منه ذلك ليحولنى إلى امرأة نقلت العصفورية فى أثرها. من القليلين من الذين استقبلتهم فى بيت الجديد الفقير، لكنه لم يحسب لذلك أى حساب. شرب قهوة عندى فى وقت لم افتح للآخرين باب بيتي. أعتقد أنه حقد على عندما أرادنى فى فراشة وتمنعت، ليس كرهاً فيه، فقد كان أنيقاً و معطراً كتفاحة، لكننى كنت أفكر فى جوزيف و لا أقبل غرته من جبران، ثم هى تربيتى الكنيسة الثقيلة. وجد تعبيراته كلها فى السهولة. أحياناً أتساءل إذا لم يظل الإنسان العربى مثبتاً فى عقد المراهقة حتى الموت: لقد كانت مى متدينة، تؤمن بالبعث، وأنها ستقف بين يدى الله يوماً، ويحاسبها على آثامها، فكانت برغم شعورها بالحياة، وإحساسها العميق الصادق، وذكائها الوضاء، وروحها الشفافة، وأنوثتها، تحرص على أن تمارس بعفة و اتزان. لم يضع فى حسبانه أنه كان يريد شيئاً، أعطيته لجوزيف، وكنت عاجزة أن أمنحه إياه، لا أدرى السبب، ربما لأنه كان يقينياً فى كل شئ. لم أجد فى العقاد هشاشة العاشق، ولكن من حجر وصوان. الكتابة هشاشة دائمة، لكنها أيضاً صنعة الإحساس فيها قد يكون محدوداً.