كشفت الكاتبة الأردنية الكبيرة سميحة خريس، عن تفاصيل رحلتها إلى السودان، فى المرحلة التعليمية، وكيفية تناولها لقضايا البشرة السوداء، فى رواياتها، مثل رواية "فستق عبيد"، والتى تسببت فى إثارة جدل كبير بسبب اسمها.
جاء ذلك خلال كلمة الكاتبة الكبيرة سميحة خريس، المعنونة بـ"شجرة بين الأبيض والأسود"، ضمن جلسات ملتقى تونس للرواية العربية، فى دورته الثانية، والذى يعقد تحت شعار "قضايا البشرة السوداء"، وينظمه بيت الرواية، فى مدينة الثقافة، فى العاصمة التونسية.
وقالت سميحة خريس، فى روايتى "بابنوس" و"فستق عبيد" اقتفيت تاريخ الرق الأسمر ومعاناة الإنسان الأفريقى على يد الأبيض، صاحب الحضارة المعاصرة، مالك الدنيا، الذى أباح لنفسه تملك البشر، تفحصت تلك المعادلة المريرة فى رغبة الإنسان بالحرية وتسببه بالعبودية حين يكون قادرًا، أردت من النصين المترابطين بوشيجة المكان وتتابع الزمان، أن ينبشا فى جرح قديم جديد، قابل للمثول بيننا فى أية لحظة، متخدًا هيئة مختلفة واسما مغايرًا، متقنعًا أو كاشفًا عن نفسه بوقاحة الغالب المنتصر، ولكن تلك حكاية تطول، خبرتها وعشتها منذ إدراكى الأول للون وأطيافه ودلالاته.
وأشارت سميحة خريس، إلى أنها فى عام 1972 دخلت أفريقيا "لأتلقى درسى الأول عن اللون، كنت قبل ذلك قد زرت من البلاد الأفريقية مصر، ولم تترك تلك الزيارات التباسا عندى بما يختص باللون، ولكنى حين نزلت السودان طالبة فى المرحلة النهائية من الثانوية العامة، اكتشفت وجها آخر للعالم، دخلت صفى الدراسى فى السنة النهائية للمرحلة الثانوية وقد تأخرت عن زميلاتى شهرًا كاملاً، كنت الفتاة البيضاء بين جمع من السمراوات، وهناك فتاة بيضاء أخرى فى زاوية الحجرة تنظر إلى بريبة، قال المعلم حينها: يمكنك استعارة دفاتر زميلاتك ونسخ ما فاتك. تبرعت البنات باعطائى دفاترهن، قضيت يومين وأنا أنسخ، ثم ثلاثة أيام وأنا أحمل الدفاتر فى حقيبتى وأنتظر أن تأتى كل فتاة لأخذ دفترها، لأنى ببساطة لم أكن أستطيع التمييز بين البنات".
وتابعت سميحة خريس: "حينها اكتشفت أن منطقة خفية فى بصيرتى عمياء تمامًا، وإذا كنا كعرب نسخر من تشابه الصينين، فإنى أقع تحت فداحة تشابه البنات الأفريقيات، لزمتنى شهور عديدة لأدرب حواسى على رؤية الفروق بينهن، ولأرطب جفوة روحى التى افترضتهن لونًا واحدًا لا هوية له، ولا تميز يفرق بين الأشخاص، ثم لزمتنى سنة بعدها لملاحظة أطياف اللون، ولتعلم المسميات الجديدة، الأحمر والأخضر والأزرق والأسود، بداية علمت أنى البنت الحمراء، ثم انكشفت الوجوه الخضر المختلطة الدماء بالعرب لدى أهل السودان، يلى ذلك صاحبات البشرة الزرقاء: من تكثف فى دمائهن لون الزنوجة، ثم الأسود الحالك الأفريقى، ولدهشتى اكتشفت أن هذا المجتمع المسالم المتوافق المختلط، مسكون بما تتركه الألوان فى القلوب من زهو واستقواء أو اغتراب أو ضآلة".
وذكرت سميحة خريس، أن سنواتها فى السودان علمتها الكثير عن تلك القضية الشائكة، مضيفة: "لهذا وأنا أقدم على مغامرة الكتابة عن مجتمع دارفور وظاهرة بيع البشر، رحت أقدم رجلا وأؤخر أخرى، أخاف من حمرتى أن تطغى وتصير سدا بينى وبين شخوص روايتى، أخاف من خلفيتى الثقافية وأفكارى المتوارثة، أخاف من المشاعر والأحكام التى تسيدت عقلى كأنها الحق".
وكشفت سميحة خريس عن خوفها من الدخول "إلى عالم ليس عالمى حقا، وكلما اشتد إلحاح الرواية بشخوصها وقضيتها، تملكتنى ودفعتنى إلى المغامرة، حتى أنى شعرت كما لو أن أحدا دفعنى مرغمة من أعلى الجبل، ربما لهذا أهديت النص الأول "بابنوس" للأديب الطيب صالح، كأنى أستمحيه عذرا وأستأذنه بولوج هذا العالم الغامض" .
وأوضحت سميحة خريس أنها فى رواية "بابنوس" صورت مأساة دارفور القديمة، التى يجرى نبشها وتسخينها وإثارتها كلما أراد الغرب، مضيفة "عرجت على فصل دام من فصول صراعها للبقاء، ولعلى أفضت وتوسعت فى التفاصيل الاجتماعية، بحثت ونقبت وبذلت جهدا لأقرب للقارىء أهالى دارفور، كيف يعيشون وماذا يحبون ويكرهون، طعامهم ولباسهم وأفكارهم وألعابهم، حزنهم وفرحهم، رقصهم ولعبهم، كانت كل تلك التفاصيل تعينينى فى جعل القارىء يتعرف إلى الإنسان هناك، ولا يراه رقما أو وجها أسود أكلته المجاعة يطل من شاشة التلفاز، ثم يذهب إلى النسيان كأنه ليس حقيقيا تماما، أردت أن أربط القارىء بالإنسان، أدله على الألوان التى عانيت لفهمها، حتى إذا وصلت نهاية النص، وصعدت الأحداث إلى دمار يحيق بشخوص الرواية، تمكنت من قنص عقلك وقلبك لتفهم الحكاية كأنها حكايتك، فلا تتناول عشاءك بحيادية مقيتة وأنت تراقب قتلى العنف والمجاعات على الشاشة الصغيرة".
وأشارت سميحة خريس إلى أنها استندت فى خاتمة الرواية على حدث وقع لواحدة من الجمعيات الدولية الفرنسية، التى تدعى مساعدة أهالى دارفور، والتى ثبت أنها تهرب الأطفال وتبيعهم، مضيفة "خطفت بطلتى "بابنوس" لتباع إلى دار دعارة فى باريس، هناك أعود لإحياء الفكرة التى أردت قولها، إذ تلتقى بفتاة أخرى تم اختطافها معها، ولكن الأخرى بيضاء كالثلج، واحدة من ضحايا حرب البوسنة، تنتهى البيضاء والسوداء عاريتين معروضتين فى أقفاص زجاجية، وقد أطلقت دار الدعارة عليهما اسمى عاج وأبنوس. ما أشد أناقة الكلمات، وما أبشع ما تنطوى عليه، هنا أقر بأن العبودية لم تكن يوما حكرا على الأسود، بل على الضعيف والمهزوم، بينما تملك البشر كان وما يزال من صنيعة الشرير والمنحط أخلاقيا، مهما كان لونه وصفته".
وتابعت سميحة خريس: تمثل روايتى الأخرى رجوعا فى التاريخ لذات العائلة، فكما بينت كيفية استعباد البنت "بابنوس"، بحثت فى تاريخ جدتها، وعدت إلى زمن أبعد لأعرض أحداثا موجعة حدثت وتجارة الرق تنتعش مع قيام الحرب العالمية الثانية، فى الرواية الجديدة والتى هى أقدم زمنيا، حرت فى التسمية، لأنى أعرف أن كلمة "فستق عبيد" استفزازية، شاهدت بأم عينى حالات من الغضب تصيب السودانى إذا أخطأ أحد أمامه بهذا الوصف الذى لم يكن يعنى شيئا فى بلاد الشام إلا أنه اسم للفستق السودانى.
وأضافت سميحة خريس: وللفستق ارتباط وثيق بالاسترقاق، ليس لمجرد اسمه الشامى، ولكن لأنه مثل لزمن طويل حيلة خاطفى الأطفال فى الاستفراد بهم وإبعادهم عن عائلاتهم ثم اختطافهم، تماما كما تغرى طفلا اليوم بكمشة من الحلوى.
وتابعت سميخة خريس: فى تلك الرواية كنت أظن أنى أعالج موضوع الرق للحديث عن أشكال جديدة له، ولمناقشة مفهوم الحرية والعبودية فى تجليات متنوعة نعيشها جميعا، ولكن راهنية الحدث بدت أكثر من ذلك، مثل شبكات دولية تتاجر بالبشر، الزرائب التى تحتجز البشر كالأغنام فى يومنا هذا، مما يعنى أن العبودية بكل أشكالها لم تنته، عبودية الجسد والفكر والقرار والإرادة، عبودية يومية يعيشها المرء وهو يتحرك مثل بندول الساعة بين الطبقات والطوائف، بين من يقدر عليه ومن ينحنى له.
وأشارت سميحة خريس إلى أن الرواية تفصح جوانب شديدة الحساسية فى علاقة الجلاد بالضحية، حين تنمو المشاعر مثل طحلب عفن، سيبدو أخضر فى مرحلة ثم يتعفن، فلا تستقيم العلاقات ولا تنقطع، ستكون هناك عجينة من الحب والكراهية يعجز الإنسان عن فصلها، وسيظل متشبثا بحلم بعيد يدور حول الحرية، كما يتشبث غريق بقش عائم، ستحاول الرواية عبر سرد أحداث تقع لشخوصها أن تنبش فى تلك المجرة المعتمة بحثا عن ضياء الحرية.