منذ اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون فى عام 1922 يتفق المؤرخون وعلماء الآثار على أنه "الاكتشاف الأثرى الأكثر أهمية فى القرن العشرين" غير أن هذا الملك المصرى الشاب الذى رحل عن الحياة الدنيا منذ آلاف السنين ويستقبل اليوم "السبت" فى معرضه جماهير الزائرين فى باريس هو بحق "سفير ثقافى فوق العادة لمصر الخالدة"
والمعرض الذى افتتح رسميا الخميس الماضى فى باريس يفتح أبوابه للجمهور اعتبارا من اليوم، فيما تتوالى الأنباء حول الإقبال منقطع النظير لحجز تذاكر الدخول وتتزين "مدينة النور بصور الملك المصرى الشاب" الذى لا تعد زيارته الحالية للعاصمة الفرنسية هى الأولى، حيث سبق أن زارها قبل أكثر من نصف قرن وإن كان الفرنسيون كما يبدو فى حالة شوق عارم لزيارته الجديدة وعطاياه السخية بـ60 قطعة أثرية لم تعرض من قبل خارج القاهرة.
ولن يكون من الغريب فى سياق الزيارة الجديدة للملك المصرى الشاب لباريس، -والتى تحظى باهتمام بالغ فى الصحافة ووسائل الإعلام الفرنسية والمنابر الثقافية فى الغرب ككل - أن تظهر فى سياق الولع الفرنسى بتوت عنخ آمون مبتكرات دالة مثلما حدث فى معرضه الذى أقيم فى عام 1967 بالعاصمة الفرنسية مثل "تسريحة الفرعون" و"شيكولاتة توت عنخ آمون" و"كارتون توت" الذى عرض على شاشات التلفزيون للأطفال فضلا عن ابتكارات تحمل اسم الفرعون الذهبى حتى فى مجال الادخار.
ويضم معرض "توت عنخ آمون.. كنوز الفرعون" أكثر من 150 قطعة "للفرعون الذهبى" الذى يداعب دوما مخيلة العالم فيما كانت مدينة الأقصر قد شهدت فى نهاية شهر يناير الماضى احتفالا بانتهاء أعمال ترميم "مقبرة الملك الشاب توت عنخ آمون" التى استمرت لأكثر من عقد، حيث عكفت بعثة من معهد "بول جيتى الأمريكى" على أعمال الترميم بإشراف وزارة الآثار المصرية.
ومن بين ما يتضمنه المعرض الباريسى من مقتنيات "الملك المصرى الشاب فى الأسرة الـ 18" توابيت مزينة بالأحجار الكريمة فضلا عن مجموعة من الحلى ذات التفاصيل الفنية الدقيقة مع المرقد الجنائزى المذهب وتمثال آمون الحارس البار للمقبرة.
ومعرض توت عنخ آمون الذى يستضيفه "مركز جراند هال دى لافيليت الثقافى فى باريس" حتى منتصف شهر سبتمبر القادم يشكل "درة التاج فى احتفالات "عام مصر-فرنسا" التى انطلقت فى مطلع العام الحالى لتكتب صفحة جديدة ومضيئة فى قصة العلاقات المصرية-الفرنسية.
وكانت وزيرة الثقافة الدكتورة ايناس عبد الدايم قد أوضحت أن هذه الفعاليات الاحتفالية لعام مصر – فرنسا، والتى ستمتد على مدى عام 2019 ستقام فى العديد من المدن الفرنسية جنبا إلى جنب مع المدن المصرية، فيما نوه وزير الآثار الدكتور خالد العنانى بقوة ورسوخ التعاون بين البلدين الصديقين فى مجال الآثار موضحا أن هناك الآن نحو 40 بعثة أثرية فرنسية فى ربوع مصر.
وقام العنانى ووزير الثقافة الفرنسى فرانك ريستيير بافتتاح معرض توت عنخ آمون فى باريس أمس الأول وشهد مراسم الافتتاح الرسمى سفير مصر لدى فرنسا إيهاب بدوى فيما لاحظ وزير الآثار المصرى أن للآثار المصرية مكانة عميقة فى قلوب الفرنسيين.
وعندما يحل منتصف شهر سبتمبر القادم ويحين وقت وداع الفرعون الذهبى لأهل باريس سيكون الملك المصرى الشاب توت عنخ آمون على موعد مع جولات جديدة فى الغرب تبدأ بزيارة للعاصمة البريطانية لندن، فيما كان الإنجليزى هوارد كارتر هو الذى عرفه العالم كصاحب اكتشاف توت عنخ آمون فى شهر نوفمبر عام 1922 ووصف هذا الإنجاز الذى جاء بعد نحو قرن كامل من اكتشاف الفرنسى شامبليون لرموز اللغة الهيروغليفية "بالاكتشاف الأكثر إثارة فى مجال علم المصريات خلال القرن العشرين".
والإنجليزى هوارد كارتر الذى ولد عام 1873 وقضى فى عام 1939 كان يمتهن التنقيب عن الآثار ويواجه نفقاته برسم لوحات بالألوان المائية يبيعها للسائحين فيما يقول الكاتب والصحفى الفرنسى روبير سوليه إنه كان على وشك التخلى عن التنقيب فى وادى الملوك بالأقصر حين أبرز عماله سلما من 13 درجة يفضى إلى مقبرة مغلقة.
وإذا كان من الشائع أن الأثرى الانجليزى هوارد كارتر هو مكتشف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 فى وادى الملوك، فإن عالم المصريات زاهى حواس الذى حضر افتتاح المعرض الحالى للفرعون الذهبى فى باريس قال فى كتاب صدر بعنوان "أسطورة توت عنخ آمون" إن طفلا مصريا يدعى حسين عبد الرسول كان يبلغ من العمر 9 سنوات هو الذى دل كارتر على مدخل المقبرة.
كانت هذه المقبرة المغلقة هى "المقر الأخير للفرعون المصرى الشاب توت عنخ آمون" وعند الولوج للمقبرة فى السادس والعشرين من نوفمبر عام 1922 كانت هناك منقولات جنائزية خرافية مودعة منذ 3200 عام.
وسرى النبأ فى العالم كله فيما جمعت أعداد لا حصر لها من القطع الثمينة خلال أربع سنوات من عمليات رفع الركام وأخيرا تم التوصل إلى المومياء الملكية التى أصيب الجميع أمامها بالذهول والانبهار: ثلاثة توابيت معشقة الواحد فى الآخر ونعش من الذهب الخالص المنحوت والمنقوش وقناع جنائزى من الذهب الخالص أيضا ومرصع بحجر اللازورد.
ووفقا للكتابات التاريخية المتعددة التى تناولت هذا الاكتشاف البالغ الأهمية فى التاريخ الإنسانى فقد أمكن الحصول من "اكتشاف كارتر على أكثر من ألفى قطعة أثرية بما فى ذلك عقود وأساور وأوعية وعصى وخزائن وتماثيل بل وحتى عربات الملك".
وعلى أثر اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، اشتعل الهوس بكل ما هو مصرى فى بلدان الغرب خاصة فى فرنسا وتميزت "سنوات توت عنخ آمون بجميع أنواع المبتكرات والموضات المستلهمة من مصر وبخاصة فى باريس، حيث ظهر نمط جديد من الملابس المصرية قام ملوك الأزياء الراقية فى العاصمة الفرنسية بعرضه فى خريف عام 1923".
وكما يقول الكاتب روبير سوليه فقد قام المصمم "كارتييه" بابتكار علبة أدوات زينة للنساء أسماها "توت عنخ آمون" مطلية بميناء وعليها رسوم ملونة ومرصعة بالذهب والعاج والعقيق والياقوت الأزرق والزمرد الأخضر والماس.
وإذا كان الذى نسب له هذا الاكتشاف الأثرى والتاريخى المبهر هو رجل إنجليزى، فان الذى أسندت إليه حينئذ مهمة الحفاظ على تلك المقتنيات التى لا تقدر بثمن كان الفرنسى بيير لاكو بحكم عمله كمدير لمصلحة الآثار المصرية، وكان عليه الإشراف على نقل تلك الآثار من الأقصر إلى القاهرة كما يتعين عليه داخل المتحف المصرى "تحليل كل قطعة وتسجيلها وتصويرها"
وفيما يتضمن المعرض الباريسى الحالى لتوت عنخ آمون مزهريات مزخرفة بمفردات اللغة الهيروغليفية فإن العالم الفرنسى جان فرانسوا شامبليون هو الذى تمكن فى الرابع عشر من سبتمبر عام 1822 من فك شفرة وغموض هذه اللغة المصرية القديمة.
كان شامبليون حينئذ ابن الـ 31 عاما وعكف هذا العالم الفرنسى الشاب لسنوات على دراسة اللغات القديمة وكانت قدرته على العمل عجيبة فهو مؤرخ وعالم لغات ودارس للجماليات "ولم تكن صيحة وجدتها التى أطلقها عندما نجح فى فك رموز الهيروغليفية إلا ثمرة للجهد والمثابرة".
وتحفظ الذاكرة التاريخية اسم فرنسى آخر هو "اوجوست مارييت" الذى قام بتأسيس مصلحة الآثار المصرية وإنشاء المتحف المصرى وكان من كبار المدافعين عن التراث المصرى فضلا عن عالم المصريات جاستون ماسبيرو الذى خلف مارييت كمدير لمصلحة الآثار المصرية وكأمين لمتحف بولاق اعتبارا من الثامن عشر من فبراير عام 1881.
وإذ أعرب وزير الثقافة الفرنسى فرانك ريستيير عن إعجابه البالغ بالقطع المعروضة فى معرض توت عنخ آمون الذى يستقبل الجمهور اليوم فى باريس ووصف هذا المعرض بأنه يعكس مستوى التعاون المشترك بين بلاده ومصر، فقد رأى مثقفون فرنسيون مثل الكاتب روبير سوليه أن إقامة معرض توت عنخ آمون فى باريس عام 1967 كان دالا على استعادة العلاقات المصرية - الفرنسية قوتها وزخمها الثقافى.
ويعيد سوليه للأذهان أن هذا المعرض افتتحه اثنان من أشهر وزراء الثقافة فى بلادهما وهما المصرى ثروت عكاشة والفرنسى اندريه مالرو مضيفا أنه كان من المقرر لزيارة الرئيس الفرنسى شارل ديجول للمعرض أن تستغرق 20 دقيقة فإذا بها تمتد إلى ساعة ونصف الساعة.
وواقع الحال أن أى معرض فى باريس ككل لم يشهد من قبل مثل هذا العدد الغفير الذى زار معرض توت عنخ آمون، كما يقول روبير سوليه وهو ما تكرر مرة أخرى فى العام ذاته بإقامة معرض رمسيس الثانى فيما كانت "فرقة من الحرس الجمهورى الفرنسى فى استقبال رمسيس الثانى بمطار بورجيه فى باريس".
ويبدو أن الظاهرة تتجدد الآن فى باريس مع الزيارة الجديدة التى يقوم بها توت عنخ آمون وعلى نحو يعيد ذكريات حميمة عندما كانت الجماهير الغفيرة تبحث بكل السبل عن تذاكر دخول معرض الفرعون الذهبى الذى استمر حينئذ ستة شهور ونصف الشهر.
وقد تكون "الزيارات الجديدة للتاريخ" مطلوبة حتى لعصور موغلة فى القدم مثلما يفعل الباحث والأثرى المصرى الكبير الدكتور زاهى حواس الذى رأى أن المعرض الحالى للفرعون الذهبى فى باريس يساهم بقوة فى الدعاية للسياحة المصرية.
ولعل معرض توت عنخ آمون الحالى فى باريس يعبر عن جوهر تقرير أصدرته منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية وهى كيان اقتصادى من الكيانات المهمة فى عالمنا المعاصر، وأكدت فيه أن "السياحة الثقافية بمقدورها القيام بدور مهم للغاية فى التنمية بمناطق متعددة من العالم" فيما أمست السياحة الثقافية فى العالم المعاصر قائمة على التفكير بصورة غير تقليدية وإنتاج أفكار جديدة بعيدا عن النمطية.