صدر عن دار ميريت للنشر كتاب "1517 .. الاحتلال العثمانى لمصر وسقوط دولة المماليك" وهو من تأليف الدكتور عماد أبو غازى، والكتاب يطرح عددا من الأسئلة، لكن تظل هناك أسئلة أخرى تحتاج إلى إجابات بعيدًا عن خلفيات الصراع النظرى حول العصر العثمانى، من هذه الأسئلة:
هل حمت الدولة العثمانية المنطقة من التوسع الاستعمارى الأوروبى أم أضعفتها فأدت إلى سقوطها فريسة سهلة فى أيدى المستعمرين؟ هل أدت الحقبة العثمانية فى تاريخنا إلى تطور المجتمع المصرى أم إلى تدهوره؟ وهل اعتبر المصريون المعاصرون للحدث فى القرن السادس عشر أن العثمانيين غزاه محتلون أم اعتبروهم مجرد حكام جدد؟
وسوف أحاول هنا أن أقدم إجابات عن هذه الأسئلة الثلاثة، لكن قبل هذا لنبحث معًا، هل كانت نهاية دولة المماليك حتمية تاريخية لا مفر منها؟ أو بقول آخر: ما أسباب نجاح العثمانيين فى احتلال مصر وإسقاط دولة المماليك؟
يؤكد الدكتور عماد أبو غازى، أن أسباب هزيمة المماليك أمام العثمانيين متعددة منها الخيانة، وعدم تحديث أسلحة الجيش، فضلا عن انتشار الظلم فى الدولة، وأضاف الدكتور عماد أن الأزمة الاقتصادية التى ارتبطت بأزمة مالية تراجع فيها دور الذهب فى النظام النقدى المملوكى، وسادت العملات الفضية ثم النحاسية، كما عرفت الأسواق المملوكية العملات الذهبية الأجنبية الأقوى التى بدأت تتغلغل إلى البلاد.
ومما ساعد على تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية فى العصر المملوكى ووصولها إلى الذروة، السياسات التى كان يتبعها سلاطين المماليك مع التجار الأوروبيين – خاصة السياسات الاحتكارية لبرسباى فقد أدت بالتدريج إلى اضطراب أوضاع تجارة الترانزيت فى مصر، إلى أن جاء اكتشاف الرحالة البرتغالى فاسكو دا جاما Vasco da Gama لطريق رأس الرجاء الصالح سنة 904ه (97/ 1498م)، فكان هذا الكشف ضربة أكملت على وضع مصر الذى شغلته لعدة قرون كمركز حيوى فى طريق مرور التجارة بين الشرق والغرب؛ ففقدت بذلك مصدرًا من مصادر دخلها، وفى الوقت ذاته شكل وصول السفن البرتغالية إلى مياه المحيط الهندى وبحر العرب عبئًا عسكريًا جديدًا على مصر كانت له تكلفته الاقتصادية الباهظة.
وتبدت هذه الأزمة بوضوح فى حالة الانهيار الذى أصاب المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية، فالقاهرة حسب وصف أحد الأوروبيين الذين زاروها فى أوائل القرن العاشر الهجرى (السادس عشر الميلادي) "لا تستحق السمعة التى تتردد عنها"، والإسكندرية فى نظر زائر أوروبى آخر لمصر ما هى إلا "خرائب حالها يدعو إلى البكاء، حيث قال الإيطالى بدرو مارتير دانجلاريا سفير ملكى إسبانيا فرناندو وإيزابيلا إلى السلطان الغورى، والذى زار مصر فى 1501- 1502م/ 908ه، فى وصف الإسكندرية: "لقد طفت كثيرًا بنواحى مدينة الإسكندرية هذه، وإن تأمل خرائبها ليبعث على البكاء!
يذكر الدكتور عماد أن العثمانيين الجدد يرددون مقولة تتكرر دائمًا فى خطابهم مفادها أن الحكم العثمانى للمنطقة أنقذها من السقوط فى أيدى الاستعمار الأوروبى، أو بمعنى أدق آخر هذا الاحتلال لعدة قرون.
فهل هذا ما حدث فعلا؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نجيب عن سؤال آخر فى البداية؛ هل كانت القوى الأوروبية تحاول بالفعل احتلال المنطقة العربية فى القرن السادس عشر؟
لقد كانت سواحل المنطقة وثغورها تتعرض منذ مطلع القرن السادس عشر لغارات السفن الأوروبية، مثلما كان عليه الحال دائمًا طول القرون السابقة، الجديد فى الأمر تغير تلك القوى، وتغير اتجاه الهجمات.
فبعد أن كانت الغارات تأتى من الجيوب المتبقية منح قبة ما يسمى بالحروب الصليبية فى جزر البحر المتوسط، خاصة قبرص ومالطة، أصبح التهديد يأتى من القوى الجديدة الصاعدة فى جنوب غرب أوروبا، خصوصًا البرتغال، بعد أن وصلت إلى البحار الجنوبية بفضل اكتشاف فاسكو دا جاما لطريق رأس الرجاء الصالح.
وبعد أن كانت الغارات تتوجه لموانئ مصر والشام على البحر المتوسط، خاصة الإسكندرية ودمياط، أصبحت تتجه إلى موانئ مصر والحجاز على البحر الأحمر، وقد نجح المماليك فى صد بعض هذه الغارات لكنهم فشلوا فى صد غارات كثيرة، وهُزم أسطولهم فى موقعة ديو البحرية سنة 1509، التى كانت آخر محاولة كبرى للمماليك للتصدى للنفوذ البرتغالي.
لكن هذه الغارات لم تكن تهدف إلى احتلال البلاد احتلالاً كاملاً، بل كانت تهدف إلى إيجاد مناطق ارتكاز على طرق التجارة الجديدة التى اكتشفوها، كانت تهدف إلى السيطرة على الموانئ الأساسية فى خليج عدن وبحر العرب، أو بناء قلاع قريبة منها تكون هذه الموانئ فى مرمى مدافعها، وفى نفس الوقت تهدف إلى القضاء على طرق التجارة القديمة التى كانت تمر عبر مصر، وإلى ضرب التحالف التجارى والسياسى القائم بين مصر والبندقية وممالك الهند الإسلامية، وكانت الدولة العثمانية قد دخلت طرفًا فى هذا التحالف لبعض الوقت عندما وقعت معاهدة مع البندقية، لكن التحالف لم يدم طويلاً، خاصة مع نجاح البرتغاليين فى تحقيق سيطرتهم على نقاط ارتكاز رئيسية فى الخليج العربى وبحر العرب وخليج عدن.
وإذا كانت الدولة العثمانية قد نجحت فى وقف الغارات البرتغالية على موانئ البحر الأحمر، فإنها لم تنجح إطلاقًا فى وقت سيطرتهم ومن بعدهم الهولنديين فالإنجليز على تجارة الشرق، ولا فى منعهم من بناء نقاط ارتكاز فى البحار الجنوبية وفى منطقة الخليج.
إذًا لم يؤد الاحتلال العثمانى إلى تغيير جوهرى فى مصير المنطقة أو حتى إلى تغيير طفيف، فقد حقق البرتغاليون جل أهدافهم من حروب فى الشرق، والتى لم يكن من بينها احتلال المنطقة.