سؤال طالما سأله الفتى لنفسه فى صيف العام 1989م، ذلك أن هذا الفتى الصغير الذى تجاوز 23 عاماً طرد من عمله ذات يوم لأن ألف كتاباً، فمر بأزمة عنيفة بلا عمل... بلا أمل.
تبدأ القصة حين كان الفتى فى العام الثانى بكلية الآثار جامعة القاهرة، وكانت هيئة الآثار المصرية آنذاك تتبنى عمل الشباب فى مشروع ترميم الآثار، وبدأت فى صيف العام 1986م مشروعاً لترميم آثار مدينة فوه، وهى مدينة تراثية تقع فى شمال غرب دلتا النيل، تشتهر بمساجدها التراثية، وكانت قريبة من مدينة مطوبس إذ لا تبعد عنها كثيراً، فذهب الفتى للعمل فى خلال إجازة الصيف ليوفر بعض المال يعينه على الصرف خلال العام الدراسى الجامعى، عمل الفتى شهرين ونصف من يوليه إلى منتصف سبتمبر وتنقل بين شوارع المدينة ودروبها وكذلك آثارها حتى حفظها عن ظهر قلب.
كانت دهشته كبيرة أن معظم المختصين فى الآثار لا يعرفون عنها شيئاً، فبدأ يبحث ويقرأ، ثم ذات يوم طرأ عليه خاطر أن يكتب كتاباً عن مدينة فوه وتراثها، فبدأ مشروعه هذا الطموح، لكن هذا الشاب ذا 19 عاماً أخفى هذا الأمر، فلو باح به لأحد لظنه مجنوناً فى مجتمع لا يقر هذا لمن هم فى سن صغير، أتاح له البحث فى أشهر الصيف أن يقرأ مصادر ومراجع بنهم، ثم بدأ الدراسة الميدانية لتراث المدينة فسجل العديد من المشاهدات ونصوص كتابية فى مساجد المدينة ليشكل مادة أولية يبنى منها نص كتابه.
ظل الفتى يقرأ ويجمع حول المدينة، ويجمع مواد لموضوعات أخرى تخطر على ذهنه اعتقد أنها تصلح لبحث أو دراسة فى المستقبل.
إلى أن جاءت فرصة لدراسة العمارة المملوكية والعثمانية فى آخر عام دراسى فى كلية الآثار بجامعة القاهرة 1987/1988م، ليكون بحثه عن مدرسة وجامع الأمير حسن نصر الله فى فوه، البحث الميدانى الذى قدمه لمادة البحوث فى هذا العام فبلور الفتى دراسة كانت هى أساس أولى للكتاب، ثم استكمله بعد التخرج مباشرة فى مادة كتاب راجعته السيدة ليلى على إبراهيم التى كانت تعمل فى قسم العمارة والفنون الإسلامية فى الجامعة الأمريكية.
ثم جاء السؤال بعد التخرج، هل يستطيع فتى حديث التخرج نشر كتاب عن مدينة فوه وتراثها، أخفى الفتى الأمر إلا عن صديقه ياسر الكردى الذى عرفه تفاصيل ما يقوم به فحفظ السر، الفتى حلمه كان أن يجعل كتابه منتشراً، فكانت خطته أن يطبعه وينشره عن طريقة "الأهرام" لأن مؤسسة الأهرام تمتلك المطابع وشبكة التوزيع الكبيرة فى مصر، لكن من سيمول نشر الكتاب، ذهب الفتى إلى المستفيد من التعريف بفوه، وهو رئيس مجلس مدينة فوه آنذاك عبد العال دخيل، الذى كان محبوباً من أهل فوه، وكان جريئاً عن غيره، استغل جرأته وأقنعه بالكتاب، ولكن اشترط أن يذكى من أحد الأساتذة الكبار، فذكته السيدة/ ليلى على إبراهيم بخطاب له.
فاعتمد له مبلغ عشرة آلاف جنيه لطباعة الكتاب، حملت خطاب من مجلس مدينة فوه إلى الأهرام فى القاهرة لتطبع الكتاب وتوزعه، وكانت أول مرة فى حياته يدخل مطبعة، ويتعرف على خطوات طباعة الكتاب فتردد لمدة ثلاثة أشهر على مطبعة الأهرام فى كورنيش النيل ببولاق أبو العلا، خلالها عرف مونتاج الكتب والبروفات والإخراج والمراجعة وأرقام الإيداع، عرف تفاصيل صناعة أى كتاب من حرفيين مهرة، وكانوا يستغربون منه إصراره على أن يعرف كل شيء، وحينها كان شىء ما بداخله يوحى إليه أنه لا بد أن يعرف كيف تجرى مراحل الطباعة وهذه الصانعة، هذا ما أفاده فى مراحل لاحقه من حياته وعمله.
بعد أن طبع الكتاب تسلم مجلس مدينة فوه منه حصة ليوزعها، وتسلم حصة كانت هى مكافأته على إنجاز الكتاب، وأصر على أن يتسلم توزيع الأهرام ثلاثة آلاف نسخة من خمسة آلاف ليوزعها على الأرصفة فى كل أنحاء مصر، خرج الكتاب على ورق فاخر وبصور ملونة، يفوق فى إخراجه كتب الآثار آنذاك فى مصر.
ذات صباح مر مدير عام بهيئة الآثار المصرية على بائعى الصحف ففوجئ بكتاب "فوه مدينة المساجد" على الأرصفة اشترى على الفور نسخة منه، واعتبر تأليفه جريمة كبرى لا تغتفر، بحث عن مؤلفه فوجد أنه يعمل بأجر يومى فى تفتيش آثار رشيد، فأصدر أمراً نافذاً بطرد الفتى من عمله على الفور.
وعاد إلى عمله مرة أخرى؟ وتكرر هذا الأمر إلى صيف العام 1990م، حيث كان قد تحول من نظام العمل باليومية إلى العلاقة العقدية، فصدر أمر بوقف عقده بحجة أنه على موازنة لا يجوز التعاقد عليها، فقرر حينها أن يغادر عمله نهائياً ليترك رشيد حيث كان يعمل فى مطوبس حيث كان يقيم، إلى القاهرة فى العام 1990م.
فى حقيقة الأمر حينما يسترجع الفتى هذه المرحلة يجد أنها أكسبته الجلد والصبر على الصعاب والمحن، فقد عمل تاجر شنطة لكى لا يجلس فى البيت، وكما أن شيئاً ما كان يدبره القدر، فقد كان انتقال الفتى إلى القاهرة فرصة لاستكمال الدراسات العليا والانطلاق إلى عالم أوسع وأكثر رحابه.
ليشكر هؤلاء الذين طردوه من عمله، وهو ممتن لهم كثيراً، إذ لو ظل يعمل مفتشاً للآثار فى رشيد لظل موظفا حكوميا بسيطا لديه تطلعات يحاول إنجازها لكن دون جدوى "فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم".
الفتى لم يحصد من هذا الكتاب مالاً، وحصد المرار بسببه لعامين متتاليين، لكن كتابه هذا أرسله لمراكز أبحاث خارج مصر، فكانت ترد عليه بكتب غالية الثمن ضمها لمكتبته، وكانت نصيره فى أبحاثه، فى ذلك الزمان كان الحصول على المصادر والمراجع وامتلاكها أمر شديد الصعوبة.
عرفت مدينة فوه بالفتى وعرف الفتى بمدينة فوه لردهة من الزمن، واعتز هو بكتابه الأول الذى دفعه لأن يكون لديه كتب أخرى، ولم يكن هذا الكتاب آخر محنة مع كتبه، إذ عانى الأمرين مع كتب أخرى.