تحل اليوم ذكرى رحيل على بك الكبير سلطان مصر المملوكى والذى رحل عن عالمنا فى 5 مايو 1773م، وهو مملوكي حكم القاهرة كشيخ البلد أيام العثمانيين، وكانت حياته مليئة بالأحداث، ولكن اليوم نسلط الضوء على وثيقة حملت عنوان "مؤامرة فى بلاط على بك الكبير" وهى رسالة مؤرخة 17 مارس 1766 مرفقة بتقرير السياسى النمساوى هنرى دى بنكلر وهو رجل السلك السياسى النمساوى وسفير للنمسا.
تقدم لنا هذه الوثيقة التى جاءت ضمن الوثائق المنشورة فى كتاب كتاب النهضة العربية الحديثة " الوثائق من إعداد راندا عبد العزيز نوار وعزت عبد العزيز نوار، رواية لشاهد عيان عما كان يحاك من مؤامرات وصراعات دموية وهو مغامر إيطالى كان قد قتل عشيقته الراهبة، واستخدمه على بك فى دس السم لأحد خصومه إلا أن جارية لدى على بك الكبير افشت السر فما كان من على بك إلا أن قتلها.
وجاء نص الوثيقة "كان لى شرف الكتابة إلى سعادتكم بتاريخ 4 الجارى "مارس 1766"، عن الخلافات التى قامت فى القاهرة بين الزعماء وخاصة ضد على بك ـ والمناوشات التى كان يغذيها ويشعل أوارها وجود باشوات ثلاثة بالقاهرة وهو حمزة باشا والى مصر الحالى وسلفه الذى تعمد البقاء على غير المعتاد بحجة تسديد ديونه وثالثهم الباشا المنقول إلى جدة ويقصد هنا "حمزة باشا ومحمد راقم باشا وأحمد باشا والى جده".
وكان المتوقع أن تبلغ هذه الخلافات ذروتها عقب العيد ولكن وقعت امور لم تكن فى الحسبان أدارت عجلة الحوادث بسرعة، فمنذ سنوات عدة يستخدم حسين بك طبيبًا من أهل نابلى يدعى سلفاتورى فينجا، ويذكرون عنه أنه كان راهبا وحدث بينه وبين غحدى الراهبات ما يسين بعد أن توطدت بينهما علاقات محبة اكيدة، ولكن ليستر جرمه دس لها السم وفر إلى القاهرة عن طريق دمياط، ولك يمض عليه وقت طويل بالقاهرة حتى سحره جمال غحدى اليونانيات فتجنس بجنسيتها وتزوجها وأخذ يتكسب بالطب. ولما كان على بك يعلم أن هذا الطبيب حائز لثقة حسين بك وعطفه فقد استدعاء فى ليلة 10 الجارى واغراء على دس السم لمن حماه واحسن إليه "ودفع له ألف سكوانى مقدما ووعده بمثلها عند اتمام العملية".
أما الطبيب فقد قبل العرض وبادر إلى التنفيذ فى الحال، ولم يقطن إحدهما إلى جارية "كانت فى حريم حسين بك قبل أن يحوزها على بك"، دفعها حب الاستطلاع إلى ترك فراشها والانصات إلى ما يدور بفرقة سيدها فى تلك الليلة الساحرة من رمضان، ومن خلال ثقب صغير امكنها أن تسمع وترى ما يدور فى داخل الغرفة، وبدافع الولاء لسيدها القديم اسرعت كسبًا للوقت وأفضت إليه بما دبرته يد الخيانة والغدر.
وبعد قليل استأذن الطبيب فى المثول بين يدى حسين بك فرحب به اكرمه على حسب العادة عندهم. وعرض الطبيب على حسين بك شرابا ليس له نظير ينعش الروح والجسد فأجاب حسين بك فى برود أنه ليس فى حاجة إلى أى دواء ولكنه يقترح ـ بعد ما سمع من تزكية الطبيب لهذا الدواء وإطنابه فى مدحه ـ أن يتقاسماه سويا ويقضيا الليلة فى بهجة وسرور. فلم يحر الطبيب جوابا وامتقع لونه وارتجفت أوصاله.
ولما كان حسين بك على يقين من إدانته فقد امر ببطحه على الأرض وضربه بالعصا حتى يدلى باعتراف صريح. وبعد أن ضرب خمسمائة عصا اعترف بأن هذا الدواء لم يكن غلا سم زعاف حضره بامر على بك. عند ذلك امر حسين بك بالكف عن ضربه ثم أجبره على شرب السم واركبه حمارًا وأعاده إلى منزله.
ثم فطن إلى أنه طبيب وفى استطاعته ان يحضر ويتعاطى "ترياقًا" يفسد به مفعول السم فارسل إليه اثنين من رجاله للسهر على راحته حتى إذا ما شقى أعدم، وهذان بعد أن اعيتهما الحيل فى شفائه قطعًا جثته قطعًا وقذفًا بها من النافذة طعامًا للكلاب جزاء وفاقا على ما جنته يداه.
وأحس على بك بالخيانة فقام بتحريات دقيقة انتهت بالقبض على الجارية وإعدامها. ثم حاول دون جدوى جمع شمل انصاره ولكنه تبين خطر وتوقع الهزيمة. أما أعداؤه فقد أخذ عددهم يتزايد بانضمام الكثيرين والتمسوا العدالة من الباشا. فاصدر الباشا "الوالى" فرمانا ينفى على بد إلى الشام، وكانت مفاجأة له. ولكنه اطاع صاعرًا وامتطى صهوه جواده ولم يتبعه سوى خزنداره وثمانية جوخدارية وبعد أن صودرت دارة غادر المدينة فى حراسة الفين من الجند المسلحين إلى قبة العزب "شرق القاهرة قرب باب النصر"، حيث كان عليه أن يدفع 3600 كيسًا قيمة ثلاث خزنات كانت متأخرة للباب العالى وان يقدم حسابًا عن أعماله. والمعتقد أنه نفى ولم يسدد سوى ديونه الخاصة فقط. وكان يستطيع أن يعيش عيشة راضية بمبلغ الثلاثين مليونا من القروش التى قررت له.
أما الباشا فقد كسب يدوره عددًا كبيرًا من القرى إذ أن على بك فقد حقوقه فيما كان تحت يده من الأراضى" وحصل منها على مبالغ طائلة.
وكان اعتقاد الكثيرين أن على بك سيحكم عليه بالإعدام. وهكذا ختمت ايام على بك الطاغية. وسترى فى المستقبل كيف يكون شكل الحكومة الجديدة، خاصة وأن الباشا الحالى سياسى محنك.
وسأفيد سعادتكم بالحوادث المقبلة أولا بأول.