نواصل قراءة الإبداع الجميل فى ألف ليلة وليلة ونتوقف عن حكاية "مدينة النحاس".
فى الليلة الثامنة والستين بعد الخمسمائة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد، أن الجنى الذى فى العامود لما حكى لهم حكايته من أولها إلى أن سجن فى العامود، قالوا له أين الطريق الموصلة إلى مدينة النحاس فأشار لنا إلى طريق المدينة وإذا بيننا وبينها خمسة وعشرون باباً لا يظهر منها باب واحد ولا يعرف له أثر، وسورها كأنه قطعة من جبل أو حديد صب فى قالب، فنزل القوم ونزل الأمير موسى والشيخ عبد الصمد واجتهدوا أن يعرفوا لها باباً ويجدوا لها سبيلاً فلم يصلوا إلى ذلك فقال الأمير موسى يا طالب كيف الحيلة فى دخول هذه المدينة فلابد أن نعرف لها باباً ندخل منه فقال طالب أصلح الله الأمير لنستريح يومين أو ثلاثة وندبر الحيلة إن شاء الله تعالى فى الوصول إليها والدخول فيها.
قال: فعند ذلك أمر الأمير موسى بعض غلمانه أن يركب جملاً ويطوف حول المدينة لعله يطلع على أثر باب، أو موضع قصر فى المكان الذى هم فيه نازلون فركب بعض غلمانه وسار حولها يومين بلياليهما يجد السير ولا يستريح فلما كان اليوم الثالث أشرف على أصحابه، وهو مدهوش لما رأى من طولها وارتفاعها، ثم قال أيها الأمير إن أهون موضع فيها هذا الموضع.
ثم إن الأمير موسى أخذ طالب بن سهل والشيخ عبد الصمد، وصعد على جبل مقابلها وهو مشرف عليها، فلما طلعوا ذلك الجبل رأوا مدينة لم تر العيون أعظم منها، قصورها عالية وقبابها زاهية ودورها عامرات وأنهارها جاريات وأشجارها مثمرات وأنهارها يانعات وهى مدينة بأبواب منيعة خالية مدة لا حس فيها، ولا انس يصفر البوم فى جهاتها ويحوم الطير فى عرضاتها وينمق الغراب فى نواحيها وشوارعها ويبكى على من كان فيها.
فوقف الأمير موسى يتندم على خلوها من السكان، وخرابها من الأهل والقطان وقال سبحان من لا تغيره الدهور والأزمان خالق الخلق بقدرته فبينما هو يسبح الله عز وجل إذ حانت منه التفاتة إلى جهة وغذا فيها سبعة ألواح من الرخام الأبيض وهى تلوح من البعد، فدنا منه فإذا هى منقوشة مكتوبة فأمر أن تقرأ كتابتها، فتقدم الشيخ عبد الصمد وتأملها وقرأها فإذا فيها وعظ واعتبار وزجر لذوى الأبصار، مكتوب على اللوح الأول بالقلم اليونانى يا ابن آدم ماذا أغفلك عن أمر هو أمامك قد ألهتك عنه سنينك وأعوانك أما علمت أن كأس المنية لك يترع وعن قريب له تتجرع فانظر لنفسك قبل دخولك رمسك أين من ملك البلاد وأذل العباد وقاد الجيوش نزل بهم والله هادم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب المنازل العامرات فنقلهم من سعة القصور إلى ضيق القبور وفى أسفل اللوح مكتوب هذه الأبيات:
أين الملوك ومن بالأرض قد عمروا قد فارقوا ما بنوا فيها وما عمروا
وأصبحوا رهن قبر بالذى عمـلـوا عادوا رميماً به من بعد ما دثـروا
أين العساكر ما ردت وما نفـعـت وأين ما جمعوا فيها وما ادخـروا
أتاهم رب العرش علـى عـجـل لم ينجهم مـنـه أمـوال ولا وزر
فبكى الأمير موسى وجرت دموعه على خده، وقال: والله إن الزهد فى الدنيا هو غاية التوفيق ونهاية التحقيق ثم إنه أحضر دواة وقرطاساً وكتب ما على اللوح الأول، ثم إنه دنا من اللوح الثانى وإذا عليه مكتوب يا ابن آدم ما غرك بقديم الأزل وما ألهاك عن حلول الأجل، ألا تعلم أن الدنيا دار بوار ما لأحد فيها قرار وأنت ناظر إليها ومكب عليها، أين الملوك الذين عمروا العراق وملكوا الآفاق أين من عمروا أصفهان وبلاد خراسان دعاهم داعى المنايا فأجابوه وناداهم منادى الفناء فلبوه وما نفعهم ما بنوا وشيدوا ولا رد عنهم ما جمعوا وعددوا وفى أسفل اللوح مكتوب هذه الأبيات:
أين الذين بنـوا لـذاك وشـيدوا غرفاً به لم يحكـهـا بـنـيان
جمعوا العساكر والجيوش مخافة من ذل تقدير الإله فـهـانـوا
أين الأكاسرة المناع حصونهـم تركوا البلاد كأنهم ما كـانـوا
فبكى الأمير وقال والله لقد خلقنا لأمر عظيم ثم كتب ما عليه ودنا من اللوح الثالث.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.