نواصل فى اليوم الثامن من شهر رمضان المعظم سلسلة آية و5 تفسيرات، ونتوقف عند الجزء الثامن من القرآن الكريم والآية رقم 149 من سورة الأنعام وقوله تعالى "قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ".
تفسير الطبرى
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، القائلين على ربهم الكذبَ، فى تحريمهم ما حرموا من الحروث والأنعام، إن عجزوا عن إقامة الحجة عند قيلك لهم "هل عندكم من علم بما تدعون على ربكم فتخرجوه لنا"، وعن إخراج علم ذلك لك وإظهاره، وهم لا شك عن ذلك عَجَزَة، وعن إظهاره مقصرون، لأنه باطل لا حقيقة له (فلله)، الذى حرم عليكم أن تشركوا به شيئًا وأن تتبعوا خطوات الشيطان فى أموالكم من الحروث والأنعام (الحجة البالغة)، دونكم أيها المشركون.
ويعنى بـ"البالغة"، أنها تبلغ مراده فى ثبوتها على مَنْ احتج بها عليه من خلقه، وقَطْعِ عُذْرِه إذا انتهت إليه فيما جُعِلت حجة فيه.
(فلو شاء لهداكم أجمعين)، يقول: فلو شاء ربكم لوفَّقكم أجمعين للإجماع على إفراده بالعبادة، والبراءة من الأنداد والآلهة، والدينونة بتحريم ما حرم الله وتحليل ما حلله الله، وترك اتباع خطوات الشيطان، وغير ذلك من طاعاته، ولكنه لم يشأ ذلك، فخالف بين خلقه فيما شاء منهم، فمنهم كافر ومنهم مؤمن.
تفسير ابن كثير
قوله تعالى (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل) لهم يا محمد: (فلله الحجة البالغة) أى: له الحكمة التامة، والحجة البالغة فى هداية من هدى، وإضلال من أضل، (فلو شاء لهداكم أجمعين) وكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويبغض الكافرين، كما قال تعالى: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) [الأنعام: 35 ]، وقال تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا) [ يونس: 99 ]، وقوله (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) [ هود: 118، 119 ] .
قال الضحاك: لا حجة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده .
تفسير البغوى
(قل فلله الحجة البالغة) التامة على خلقه بالكتاب والرسول والبيان، (فلو شاء لهداكم أجمعين) فهذا يدل على أنه لم يشأ إيمان الكافر، ولو شاء لهداه.
تفسير الجلالين
قل إن لم يكن لكم حجة فلله الحجة البالغة التامة فلو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين.
تفسير الوسيط لـ طنطاوى
وبعد أن نفى سبحانه عنهم أدنى ما يقال له علم وحصر ما هم عليه من دين فى أدنى مراتب الظن مع أن أعلاها لا يغنى من الحق شيئا، ووصمهم بالكذب فيما يدعون، بعد كل ذلك أثبت لذاته- سبحانه- فى مقابلة ذلك الحجة العليا التى لا تعلوها حجة فقال:
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.
الحجة: كما قال الراغب فى مفرداته: الدلالة المبينة للمحجة، أى: المقصد المستقيم.
أى: قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين الذين بنوا قواعد دينهم على الظن والكذب بعد أن عجزوا عن الإثبات بأدنى دليل على مزاعمهم، قل لهم: لله وحده الحجة البالغة. أى البينة الواضحة التى بلغت أعلى درجات العلم والقوة والمتانة، والتى وصلت إلى أعلى درجات الكمال فى قطع عذر المحجوج وإزالة الشكوك عمن تدبرها وتأملها.
وقوله. فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أى: لو شاء- سبحانه- هدايتكم جميعا لفعل لأنه لا يعجزه شيء، ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء هداية البعض لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وشاء ضلالة آخرين، لأنهم صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الباطل.
ونريد أن نزيد هذه الشبهة القديمة الحديثة تمحيصا وكشفا ودفعا فنقول لأولئك الذين يبررون ارتكابهم للموبقات بأنها واقعة بمشيئة الله.
نحن معكم فى أنه لا يقع فى ملكه- سبحانه- إلا ما يشاؤه، فالطائع تحت المشيئة والعاصى تحت المشيئة، ولكن المشيئة لم تجبر أحدا على طاعة أو معصية وقضاء الله وقدره هو علمه بكل ما هو كائن قبل أن يكون، وليس العلم صفة تأثير وجبر.
ولقد شاء الله- تعالى- أن يجعل فى طبيعة البشر الاستعداد للخير والشر، ووهبهم العقل ليهتدوا به وأرسل إليهم الرسل لينمو فيهم استعدادهم وسن لهم شريعة لتكون مقياسا ثابتا لما يأخذون وما يدعون، كى لا يتركهم لعقولهم وحدها.
وإذن فمشيئة الله متحققة حسب سنته التى ارتضاها مختارا- وهو قادر على اختيار غيرها وعلى تغييرها وتبديلها- متحققة سواء اتخذ العبد طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال، وهو مؤاخذ إن ضل ومأجور إذا اهتدى. غير أن سنة الله اقتضدت أن من يفتح عينه يبصر النور، ومن يغمضها لا يراه، كذلك من يفتح قلبه لإدراك دلائل الإيمان يهتدى. ومن يحجب قلبه عنها يضل، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وإذن فزعم الزاعمين بأن الله شاء هذا على معنى أنه أجبرهم عليه فهم لا يستطيعون عنه فكاكا، إنما هو زعم باطل لا سند له من العلم والتفكير الصحيح فإن المشيئة الإلهية لها سنة تقيدت بها، وهذه السنة هى أنه لا جبر على طاعة ولا قسر على معصية.
وتقرير ذلك يؤخذ من قوله- تعالى- قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أى: فلو شاء أن يكرهكم ويفرض هدايتكم بقدرته وقدره لهداكم، ولكنه لم يشأ إجباركم على الضلالة، فهى مشيئة المنح والتيسير وليست مشيئة الإلجاء والتسخير قال- تعالى- فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى.