فى الليلة الماضية واصل الأمير موسى ورفاقه التجوال داخل مدينة النحاس، حيث وجدوا جميع من فيها موتى بينما الأموال والجواهر متكدسة فى كل مكان، ثم دخلوا مكان به جارية.
وفى الليلة الثانية والسبعين بعد الخمسمائة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما رأى هذه الجارية تعجب غاية العجب من جمالها وتحير من حسنها وحمرة خديها وسواد شعرها يظن الناظر أنها بالحياة وليست ميتة، فقالوا لها السلام عليك أيتها الجارية فقال لها طالب بن سهل أصلح الله شأنك أعلم أن هذه الجارية ميتة لا روح فيها فمن أين لها أن ترد السلام، ثم إن طالب بن سهل قال له أيها الأمير إنها صورة مدبرة بالحكمة وقد قلعت عيناها بعد موتها وجعل تحتها زئبق وأعيدتا إلى مكانهما فهما يلمعان كأنما يحركهما الهدب يتخيل للناظر أنها ترمش بعينيها وهى ميتة.
فقال الأمير موسى سبحان الذى قهر العباد بالموت وأما السرير الذى عليه الجارية فله درج وعلى الدرج عبدان أحدهما أبيض، والآخر أسود بيد أحدهما آلة من الفولاذ، وبيد الآخر سيف مجوهر يخطف الأبصار وبين يدى العبدين لوح من ذهب وفيه كتابة تقرأ وهى: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله خالق الإنسان وهو رب الأرباب ومسبب الأسباب بسم الله الباقى السرمدى بسم الله مقدر القضاء والقدر يا ابن آدم ما أجهلك بطول الأمل وما أسهاك عن حلول الأجل، أما علمت أن الموت لك قد دعا وإلى قبض روحك قد سعى فكن على أهبة الرحيل وتزود من الدنيا فستفارقها بعد قليل. أين آدم أبو البشر أين نوح وما نسل أين الملوك الأكاسرة والقياصرة أين ملوك الهند والعراق أين ملوك الآفاق أين ملوك العمالقة أين الجبابرة؟ لقد خلت منهم الديار وقد فارقوا الأهل والأوطان أين ملوك العجم والعرب لقد ماتوا بأجمعهم وصاروا رمماً أين السادة ذوو الرتب؟ لقد ماتوا جميعاً أين قارون وهامان أين شداد بن عاد بن كنعان وذووا الأوتاد قرضهم الله قارض الأعمار وخلى منهم الديار فهل قدموا ليوم الميعاد واستعدوا لجواب رب العباد يا هذا إن كنت لا تعرفنى فأنا أعرفك باسمى ونسبى أنا ترمزين بنت عمالقة الملوك من الذين عدلوا فى البلاد وملكت ما لم يملكه أحد من الملوك، وعدلت فى القضية وأنصفت بين الرعية وأعطيت ووهبت، وقد عشت زمناً طويلاً فى سرور وعيش رغيد وأعتقت الجوارى والعبيد حتى نزل بى طارق وحلت بين يدى الرزايا وذلك أنه قد تواترت علينا سبع سنين لم ينزل علينا ماء من السماء ولا نبت لنا عشب على وجه الأرض فأكلنا ما كان عندنا من القوت فلم يجدوه ثم عادوا إلينا بالمال بعد طول الغيبة فحينئذ أظهرنا أموالنا وذخائرنا وأغلقنا أبواب الحصون التى بمدينتنا وسلمنا الحكم لربنا وفوضنا أمرنا لمالكنا فمتنا جميعاً كما ترانا وتركنا ما عمرنا وما ادخرنا فهذا هو الخبر وما بعد العين إلا الأثر وقد نظروا فى أسفل اللوح فرأوا مكتوباً فيه هذه الأبيات:
بنـى آدم لا يهـزأ بـك الأمــل عن كل ما ادخرت كفاك ترتحلوا
أراك ترغب فى الدنيا وزينتـهـا وقد سعى قبلك الماضون والأول
قد حصلوا المال من حل ومن حرم فلم يرد القضا لما انتهى الأجـل
قادوا العساكر أفواجاً وقد جمعـوا فخلفوا المال والبنيان وارتحـلـوا
إلى قبور وضيق فى الثرى رقدوا وقد أقاموا به رهناً بما عمـلـوا
كأنما الركب قد حطوا رحالهمـو فى جنح ليل بدار ما بهـا نـزل
فقال صاحبها يا قوم ليس لـكـم فيها مقام فشدوا بعد ما نـزلـوا
فكلهم خائف أضحى بهـا وجـلا ولا يطيب له حل ومـرتـحـل
قدم الزاد من خير تسـير غـدا وليس إلا بتقوى ربك العـمـل
فبكى الأمير موسى لما سمع هذا الكلام وقال والله إن التقوى هى رأس الأمور والتحقيق والركن الوثيق وإن الموت هو الحق المبين، والوعد اليقين فراع فيه يا هذا المرجع والمآب واعتبر بمن سلف قبلك فى التراب وبادر إلى سبيل الميعاد، أما ترى الشيب إلى القبر دعاك وبياض شعرك على نفسك قد نعاك فكن على يقظة الرحيل والحساب، يا ابن آدم ما أقسى قلبك فما غرك بربك أين الأمراء السالفة العبرة لمن يعتبر، أين ملوك الصين أهل البأس والتمكين، أين عاد بن شداد وما بنى وعمر ابن النمرود الذى طغى وتجبر، أين فرعون الذى جحد وكفر كلهم قد قهرهم الموت على الأثر، فما بقى صغيراً ولا كبيراً ولا أنثى ولا ذكر قرضهم قارض الأعمار ومكور الليل على النهار، اعلم أيها الواصل إلى هذا المكان ممن رآنا أنه لا يغتر بشىء من الدنيا وحطامها، فإنها غدارة مكارة ودار بور وغرو، فطوبى لعبد ذكر ذنبه وخشى ربه وأحسن المعاملة وقدم الزاد ليوم المعاد فمن وصل إلى مدينتنا ودخلها وسهل الله عليه دخولها فيأخذ من المال ما يقدر عليه ولا يمس من فوق جسدى شيئاً فإنه ستر لعورتى وجهازى من الدنيا فليتق الله ولا يسلب منه شيئاً فيهلك نفسه، وقد جعلت ذلك نصيحة منى إليه وأمانة منى لديه والسلام، فأسأل الله أن يكفيكم شر البلايا والسقام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.