فى الليلة الماضية حكت شهرزاد عن حكاية وزيرين من مصر، الأول هو نور الدين وأخيه شمس الدين، وكيف أنهما اختلفا وابتعد كل منهما عن الآخر.
وفى الليلة الحادية والعشرون
قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن الوزير قام له ورحب به وقال له: قم وأدخل هذه الليلة على زوجتك وفى غد أطلع بك إلى السلطان، وأرجوا لك من الله كل خير فقام نور الدين ودخل على زوجته بنت الوزير هذا ما كان من أمر نور الدين وأما ما كان من أمر أخيه فإنه غاب مع السلطان مدة فى السفر، ثم رجع فلم يجد أخاه فسأل عنه الخدم، فقالوا له من يوم سافرت مع السلطان ركب بغلته بعدة الموكب، وقال أنا متوجه إلى جهة القليوبية فأغيب يوما أو يومين فإن صدرى ضاق ولا يتبعنى، منكم أحد.
ومن يوم خروجه إلى هذا اليوم لم نسمع له خبرا فتشوش خاطر شمس الدين على فراق أخيه واغتم غما شديدا لفقده وقال فى نفسه ما سبب ذلك إلا أنى أغلظت عليه فى الحديث ليلة سفرى مع السلطان فلعله تغير خاطره وخرج مسافرا فلا بد أن أرسل خلفه ثم طلع وأعلم السلطان بذلك فكتب بطاقات وأرسل بها إلى نوابه فى جميع البلاد ونور الدين قطع بلادا بعيدة فى مدة غياب أخيه مع السلطان فذهبت الرسل بالمكاتيب ثم عادوا ولم يقفوا له على خبر ويئس شمس الدين من أخيه، وقال لقد أغظت بكلامى من جهة زواج الأولاد فليت ذلك لم يكن وما حصل ذلك إلا من قلة عقلى وعدم تدبيرى، ثم بعد مدة يسيرة خطب بنت رجل من تجار مصر وكتب كتابه عليها ودخل بها وقد اتفق أن ليلة دخول شمس الدين، على زوجته كانت ليلة دخول نور الدين على زوجته بنت وزير البصرة وذلك بإرادة الله تعالى حتى ينفذ حكمه فى خلقه وكان الأمر كما قالاه فاتفق أن الزوجتين حملتا منهما وقد وضعت زوجة شمس الدين وزير مصر بنتا لا يرى فى مصر أحسن منها، ووضعت زوجة نور الدين، ولدا ذكرا لا يرى فى زمانه أحسن منه كما قال الشاعر:
ومهفهف يغنى النديم بـريقـه عن كأسه الملأى وعن أبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقـهـا من مقلتيه ووجنتـيه وريقـه
فسموه حسنا وفى سابع ولادته صنعوا الولائم وعملوا أسمطة لا تصلح إلا لأولاد الملوك ثم أن وزير البصرة أخذ معه نور الدين وطلع به إلى السلطان فلما صار قدامه قبل الأرض بين يديه وكان نور الدين فصيح اللسان ثابت الجنان صاحب حسن وإحسان فأنشد قول الشاعر:
هذا الذى عم الأنام بعدلـه وسطا فمهد سائر الآفـاق
أشكر صنائعه فلسن صنائعا لكنهن قـلائد الأعـنـاق
وأنتم أنامله فلسن أنـامـلا لكنهن مفـاتـح الأزرق
فألزمها السلطان وشكر نور الدين على ما قال وقال لوزيره من هذا الشاب فحكى له الوزير قصته من أولها إلى آخرها وقال له هذا ابن أخى فقال وكيف يكون ابن أخيك ولم نسمع به، فقال يا مولانا السلطان إنه كان لى أخ وزير بالديار المصرية وقد مات وخلف ولدين، فالكبير جلس فى مرتبة والده وزيرا وهذا الصغير جاء عندى وحلف أنى لا أزوج ابنتى إلا له، فلما جاء زوجته بها وهو شاب وأنا صرت شيخا كبيرا وقل سمعى وعجز تدبيرى والقصد من مولانا السلطان أن يجعله فى مرتبتى، فإنه ابن أخى وزوج ابنتى وهو أهل للوزارة لأنه صاحب رأى وتدبير.
فنظر السلطان إليه فأعجبه، واستحسن رأى الوزير بما أشار عليه من تقديمه فى رتبة الوزراء فأنعم عليه بها، وأمر له بخلعة عظيمة، وزاد له الجوامك والجرايات إلى أن اتسع عليه الحال وسار له مراكب تسافر من تحت يده بالمتاجر وغيرها وعمر أملاكا كثيرة ودواليب وبساتين إلى أن بلغ عمر ولده حسن أربع سنين، فتوفى الوزير الكبير والد زوجة نور الدين، فأخرجه خرجة عظيمة وأوراه فى التراب ثم اشتغل بعد ذلك بتربية ولده فلما بلغ أشده أحضر له فقيها يقرئه فى بيته وأوصاه بتعليمه وحسن تربيته فأقرأه وعلمه فوائد فى العلم بعد أن حفظ القرآن فى مدة سنوات وما زال حسن يزداد جمالا وحسنا واعتدالا كما قال الشاعر:
قمر تكامل فى المحاسن وانتهى فالشمس تشرق من شقائق خده
ملك الجمال بأسره فكـأنـمـا حسن البرية كلها من عـنـده
وقد رباه الفقيه فى قصر أبيه ومن حين نشأته لم يخرج من قصر الوزارة إلى أن أخذه والده الوزير نور الدين يوما من الأيام وألبسه بدلة من أفخر ملبوسه وأركبه بغلة من خيار بغاله وطلع به إلى السلطان ودخل به عليه فنظر الملك حسن بدر الدين بن الوزير نور الدين فانبهر من حسنه، وقال لأبيه يا وزير لابد أنك تحضره معك فى كل يوم فقال سمعا وطاعة ثم عاد الوزير بولده إلى منزله وما زال يطلع به إلى حضرة السلطان فى كل يوم إلى أن بلغ الولد من العمر خمسة عشر عاما ثم ضعف والده الوزير نور الدين، فاحضره وقال له يا ولدى اعلم أن الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء وأريد أن أوصيك وصايا فافهم ما أقول لك وأصغ قلبك إليه وصار يوصيه بحسن عشرة الناس وحسن التدبير.
ثم إن نور الدين تذكر أخاه وأوطانه وبلاده وبكى على فرقة الأحباب، وسجت دموعه وقال يا ولدى اسمع قولى فإن لى أخا يسمى شمس الدين، وهو عمك ولكنه وزير بمصر قد فارقته وخرجت على غير رضاه، والقصد أنك تأخذ دوجا من الورق وتكتب ما أمليه عليك فأحضر قرطاسا وصار يكتب فيه كل ما قاله أبوه فأملى عليه جميع ما جرى له من أوله إلى آخره وكتب له تاريخ زواجه ودخوله على بنت الوزير وتاريخ وصوله إلى البصرة واجتماعه بوزيرها.
وكتب وصية موثقة ثم قال لولده، احفظ هذه الوصية فإن ورقتها فيها، أصلك وحسبك ونسبك فإن أصابك شىء من الأمور فاقصد مصر، واستدل على عمك وسلم عليه وأعلمه أنى مت غريبا مشتاقا إليه فأخذ حسن بدر الدين، الرقعة وطواها ولف عليها خرقة مشمعة وخاطها بين البطانة والظهارة وصار يبكى على أبيه من أجل فراقه وهو صغير وما زال نور الدين يوصى ولده حسن بدر الدين حتى طلعت روحه فأقام الحزن فى بيته وحزن عليه السلطان وجميع الأمراء ودفنوه ولم يزالوا فى حزن مدة شهرين، وولده لم يركب ولم يطلع الديوان ولم يقابل السلطان وأقام مكانه بعض الحجاب، وولى السلطان وزيرا مكانه وأمره أن يختم على أماكن نور الدين وعلى عماراته وعلى أملاكه.
فنزل الوزير الجديد وأخذ الحجاب وتوجهوا إلى بيت الوزير نور الدين يختمون عليه ويقبضون على ولده حسن الدين ويطلعون به إلى السلطان ليعمل فيه ما يقتضى رأيه وكان بين العسكر مملوك من مماليك الوزير نور الدين، المتوفى فلم يهن عليه ولد سيده فذهب ذلك المملوك إلى حسن بدر الدين فوجده منكس الرأس حزين القلب على فراق والده فأعلمه بما جرى، فقال له هل فى الأمر مهلة حتى أدخل فآخذ معى شيئا من الدنيا لأستعين به على الغربة فقال له المملوك أنج بنفسك فلما سمع كلام المملوك غطى رأسه بذيله وخرج ماشيا إلى أن صار خارج المدينة فسمع الناس يقولون أن السلطان أرسل الوزير الجديد إلى بيت الوزير المتوفى ليختم على ماله وأماكنه ويقبض على ولده حسن بدر الدين ويطلع به إليه فيقتله وصارت الناس تتأسف على حسنه وجماله فلما سمع كلام الناس خرج إلى غير مقصد ولم يعلم أين يذهب.
فلم يزل سائرا إلى أن ساقته المقادير إلى تربة والده فدخل المقبرة ومشى بين القبور إلى أن جلس عند قبر أبيه وأزل ذيله من فوق رأسه، فبينما هو جالس عند تربة أبيه إذ قدم عليه يهودى من البصرة وقال يا سيدى مالى أراك متغيرا فقال له إنى كنت نائما فى هذه الساعة، فرأيت أبى يعاتبنى على عدم زيارتى قبره فقمت وأنا مرعوب وخفت أن يفوت النهار ولم أزره، فيصعب على الأمر، فقال له اليهودى يا سيدى إن أباك كان أرسل مراكب تجارة وقدم منها البعض ومرادى أن أشترى منك وثق كل مركب قدمت بألف دينار ثم أخرج اليهودى كيسا ممتلئا من الذهب، وعد منه ألف دينار ودفعه إلى حسن ابن الوزير ثم قال اليهودى اكتب لى ورقة واختمها فأخذ حسن ابن الوزير ورقة وكتب فيها كاتب هذه الورقة حسن بدر الدين ابن الوزير نور الدين قد باع اليهودى فلان جميع وثق كل مركب، وردت من مراكب أبيه المسافرين بألف دينار وقبض الثمن على سبيل التعجيل. فأخذ اليهودى الورقة وصار حسن يبكى ويتذكر ما كان فيه من العز والإقبال ثم دخل عليه الليل وأدركه النوم فنام عند قبر أبيه ولم يزل نائما حتى طلع القمر فتدحرجت رأسه عن القبر ونام على ظهره وصار يلمع وجهه فى القمر وكانت المقابر عامرة بالجن المؤمنين، فخرجت جنية فنظرت وجه حسن وهو نائم فلما رأته تعجبت من حسنه وجماله وقالت سبحان الله ما هذا الشاب إلا كأنه من الحور العين، ثم طارت إلى الجو تطوف على عادتها فرأت عفريتا طائرا فسلمت عليه وسلم عليها فقالت له من أين أقبلت قال: من مصر فقالت له هل لك أن تروح معي، حتى تنظر إلى حسن هذا الشاب النائم فى المقبرة فقال لها نعم فسارا حتى نزلا فى المقبرة فقالت له هل رأيت فى عمرك مثل هذا فنظر العفريت إليه وقال سبحان من لا شبيه له ولكن يا أختى إن أردت حدثتك بما رأيت فقالت له حدثني، فقال لها إنى رأيت مثل هذا الشاب فى إقليم مصر وهى بنت الوزير وقد علم بها الملك فخطبها من أبيها شمس الدين.
فقال له يا مولانا السلطان أقبل عذرى وارحم عبرتى فإنك تعرف أن أخى نور الدين خرج من عندنا ولا نعلم أين هو، وكان شريكى فى الوزارة وسبب خروجه أنى جلست أتحدث معه فى شأن الزواج فغضب منى وخرج مغضبا وحكى للملك جميع ما جرى بينهما، ثم قال للملك فكان ذلك سببا لغيظه وأنا حالف أن لا أزوج بنتى إلا لابن أخى من يوم ولدتها أمها وذلك نحو ثمان عشرة سنة ومن مدة قريبة سمعت أن أخى تزوج بنت وزير البصرة وجاء منها بولد وأنا لا أزوج بنتى إلا له كرامة، لأخى ثم إنى أرخت وقت زواجى وحمل زوجتى وولدة هذه البنت وهى باسم ابن عمها والبنات كثير.
فلما سمع السلطان كلام الوزير غضب غضبا شديدا، وقال له كيف يخطب مثلى من مثلك بنتا فتمنعها منه وتحتج بحجة باردة وحياة رأسى لا أزوجها إلا لأقل منى برغم أنفك وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.