ضمن كلاسيكيّات الأدب الفرنسى التى تصدر عن مشروع "كلمة" للترجمة فى دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبى، صدرت ترجمة رواية "بطن باريس" للكاتب الفرنسى إميل زولا، وترجمها عن الفرنسية الكاتب والمترجم المصرى المقيم فى كندا ياسر عبد اللطيف، وراجع الترجمة وقدّم لها الشاعر والأكاديمى العراقى المقيم فى باريس كاظم جهاد.
بين روايات رائد المدرسة الطبيعية فى الأدب الفرنسيّ، إميل زولا Émile Zola (1840-1902)، تشغل هذه الرواية مكانة أساسيّة. فيها تجتمع الشواغل الرئيسة للكاتب، وفى أوّلها رصد الواقع السياسى والاجتماعيّ، وفى الأوان ذاته إخراج الكتابة من مطبّات التناول الواقعى المباشر.
فى هذا العمل يرصد زولا بتفصيل مفعم بالشاعرية مجريات الحياة اليوميّة وطبيعة العلاقات المهنية والإنسانية بعامّة فى أسواق "ليهال"Les Halles لبيع اللحوم والأسماك والفواكه والخضار التى كانت، منذ نهايات القرن الثامن عشر، تحتلّ قلب العاصمة الفرنسيّة بعدما تنقّلت على مرّ العهود بين عدّة أحياء. وبالرغم من نقلها فى بدايات العقد السبعينى من القرن العشرين إلى ضاحية رانجيس الباريسية وإخلائها المكان إلى مشهد عمرانى جديد بقى يحمل الاسم ذاته، "ليهال"، وتعمره الحدائق والمغازات الكبرى، ما برحت هذه الأسواق تحتلّ مكانة فى وجدان من عاصروها وفى المخيال الشعبى والأدبى الفرنسيّ. سمّاها الروائى فى عنوان عمله هذا "بطن باريس" بالمعنى الحرفى للكلمة، لأنّه كان يرى فيها بطن المدينة، معدتها الهاضمة ومحور وجودها الفيزيائيّ، الذى يتحكّم بمشاعرها وتشوّفاتها ويخطّ صراعات البشر والأهواء فى مسرحها العريض المتشعّب. من هنا الوفاء فى ترجمة العنوان لهذه الدلالة، تفضيلاً لها على عناوين أخرى قد تكون أقلّ مباشرةً فى العربيّة، من قبيل "جوف باريس" أو "أحشاء باريس"، وسواهما.
كالعادة، تقترن لغة زولا فى هذه الرواية، الصادرة فى 1873، بخصوصيّات الشيء الموصوف وبتنوّع تجلّياته. هكذا يصف ما سمّاه "سمفونيّة ضروب الجبنة"، يرصد فى أسواق "ليهال" وفرتها المذهلة، وشتّى صنوف الأسماك معروضةً بألوانها وحجومها وأشكالها وروائحها، ومختلف صنوف الخضار، وطقوس وصول العربات المحمّلة بالسّلع الطّازجة كلّ صباح. كما يرصد أروقة السّوق وأقبيتها السّفليّة ومزاداتها، ويحلّل طبائع البائعات والبائعين وأنانيّتهم وأمزجتهم وصبواتهم المحبطة فى الغالب، وتحالفاتهم المعقودة فالمنهارة فالمعقودة من جديد. هذه التقلّبات يقع ضحّيتها بطل الرّواية الشابّ، فلوريان، الهارب من معتقل المنفيّين فى مدينة كايين الواقعة فى المستعمرة الفرنسية غويانا، الذى زُجّ به فيه بعدما قبضت عليه الشرطة فى مظاهرة مناوئة لنابليون الثالث كان قد انجرّ إليها بالصّدفة.
حول هذه الحبكة يرسم زولا شبكة واسعة من العلاقات والنّماذج السّلوكيّة والأهواء، تاركاً المصائر تتلاقى وتتقاطع أو تفترق. يتوقّف مليّاً عند علاقة الحبّ التى تنشأ بين الصّبى مارجولان والفتاة كادين، وكان كلاهما لقيطين عُنيت بتربيتهما بائعة خضار، ويستعيد حوارات عن الفنّ مع الرّسّام كلود الذى يرتاد الأسواق بحثاً عن موديلات ومشاهد يطبّق عليها تصوّره الجديد لفنّ الرّسم، ويرصد "ليهال" فى مختلف ساعات النّهار واللّيل، ويعاين أنماط سلوك الباعة وطقوس العمل ومختلف تعابير هذا الجمهور الواسع. وعلى سطح هذا الأوقيانوس البشرى المتلاطم تطفو، وتخطّ النّهايةَ المأساويّة للعمل، روحُ الجشع والشّغف بالوشاية تتعيّش منه ثلاث نساء يخصّهنّ زولا بتحليلات فريدة بها يُبرز الجانب المظلم من تكوين المجتمع بأسره.
هذا كلّه يمنح الرّواية، كما كتب الناقد فيليب هامون، طبيعة توثيقيّة مؤكّدة يفيد منها عالِم الاجتماع والمؤرّخ والأنثروبولوجى والمعمارى وسواهم، كلٌّ فى مجال بحثه. سوى أنّ هذه "الوثيقة" إنّما هى مكتنفة فى عملٍ أدبى وتخضع إلى نظامٍ دلالى وتمتثل إلى حركات بلاغيّة وأسلوبيّة، ويتحكّم بها إلهام إبداعيّ. وهذا كلّه هو بالطّبع ما ضمنَ للعمل استمراريّة تأثيره وفتنته.
وُلد إميل زولا فى إكس أون بروفنس فى جنوب فرنسا عام 1840 لأب إيطالى وانتقل إلى باريس فى سنّ العشرين، وبدأ بكتابة محاولات شعريّة ثمّ اشتغل فى الصحافة والنشر. وبعد كتابات قصصية وروائية متأثرّة بالرومنطيقيّة وضع فى روايته "تيريز راكان" (1867) أُسُس ما شكّل بعد فترةٍ التيّار الطّبيعى فى الرّواية الفرنسيّة. ومع صدور هذه الرواية بدأت تختمر فى ذهنه فكرة رسم لوحة سرديّة واسعة للمجتمع المعاصر تحت العنوان الجامع "آل روغون ماكار". بدأ بكتابتها فى 1870 وتقدّم فى إنجازها بمعدّل رواية كلّ عام. وبانتهاء المجلّد العشرين بعد 25 سنة من العمل الدّؤوب، شكّلت السلسلة، حسب عنوانها الثّانويّ، "تاريخاً طبيعيّاً واجتماعيّاً لأسرة إبّان العهد الإمبراطورى الثّاني". وتميّزت سنيّه الأخيرة بانخراطه الشّجاع فى قضيّة دريفوس الشّهيرة، فتعرّض إلى ملاحقات من القضاء واليمين الفرنسيّين وتلقّى حكماً بالسّجن اضطرّه إلى الهرب والعيش منفيّاً فى لندن عاماً كاملاً حتّى أُعفى عنه. وبعد عودته بسنوات قليلة توفّى فى ليلة 28-29 ديسمبر 1902 فى اختناقٍ مشبوه سببه تسرّب الغاز فى منزله، وهو ما يُعزى إلى قيام بعض خصومه فى قضيّة دريفوس بسدّ مدخنة شقّته الصّغيرة فى باريس.
أمّا مترجم الكتاب، ياسر عبد اللطيف، فهو كاتب وشاعر ومترجم مصري، تخرّج فى قسم الفلسفة فى جامعة القاهرة عام 1994، وعمل فى الصحافة التلفزيونية والخبرية، ويقيم منذ عام 2010 فى مدينة إدمنتون فى كندا. أصدر عدّة مجموعات شعرية من بينها "ناس وأحجار" وقصائد العطلة الطويلة"، ومن أعماله فى السّرد رواية "قانون الوراثة" الحاصلة على جائزة ساويرس الأولى للكتّاب الشّباب عام 2005، والمجموعة القصصية "يونس فى أحشاء الحوت"، التى نالت نفس الجائزة فى فرع الكتّاب الكبار فى عام 2013. وترجم ياسر عبد اللطيف عدداً من الأعمال الأدبية عن الفرنسية والإنجليزية، أحدثها "المخلص دوماً فنسنت - الجواهر من رسائل فان كوخ"، وسبق أن أصدر له مشروع "كلمة" ترجمة "حكايات أمّى الإوزّة" للفرنسى شارل بيرو، راجعها كاظم جهاد.
