فى الليلة السابقة حكت شهرزاد ما قاله مزين بغداد إلى الخليفة عن أخوته الذين وقعوا فى المشاكل وتدخل هو لإنقاذهم، وكان آخرهم رجل أعمى "شحاذ".
وفى الليلة الأربعين قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن أخى لما صاح على رفقائه وقال: هذا غريب وقعوا فيه ضرباً فلما طال عليهم ذلك صاحوا: يا مسلمين دخل علينا من يريد أن يأخذ مالنا فاجتمع عليهم خلق فتعامى الرجل الغريب صاحب الدار الذى ادعوا عليه أنه لص وأغمض عينيه وأظهر أنه أعمى مثلهم بحيث لا يشك فيه أحد وصاح: يا مسلمين أنا بالله والسلطان أنا بالله والوالى أنا بالله والأمير فإن عندى نصيحة للأمير فلم يشعروا إلا وقد احتاطهم جماعة الوالى فأخذوهم وأخى معهم وأحضروهم بين يديه فقال الوالي: ما خبركم؟ فقال ذلك الرجل: اسمع كلامى أيها الوالى لا يظهر لك حقيقة حالنا إلا بالعقوبة، وإن شئت فابدأ بعقوبتى قبل رفقائى فقال الوالي: اطرحوا هذا الرجل واضربوه بالسياط فطرحوه وضربوه فلما أوجعه الضرب فتح إحدى عينيه فلما ازداد عليه الضرب فتح عينه الأخرى فقال له الوالي: ما هذه الفعال يا فاجر؟ فقال: أعطنى الأمان وأنا أخبرك فأعطاه الأمان، فقال: نحن أربعة نعمل حالنا عمياناً ونمر على الناس وندخل البيوت وننظر النساء ونحتال فى فسادهن، واكتساب الأموال من طرقهن وقد حصلنا من ذلك مكسباً عظيماً وهو عشرة آلاف درهم فقلت لرفقائي: أعطونى حقى ألفين وخمسمائة فقاموا وضربونى وأخذوا مالى وأنا مستجير بالله وبك وأنت أحق بحصتى من رفقائي، وإن شئت أن تعرف صدق قولى فاضرب كل واحد أكثر مما ضربتنى فإنه يفتح عينيه فعند ذلك أمر الوالى بعقوبتهم وأول ما بدأ بأخى وما زالوا يضربونه حتى كاد أن يموت ثم قال لهم الوالي: يا فسقة تجحدون نعمة الله وتدعون أنكم عميان فقال أخي: الله الله الله ما فينا بصير فطرحوه إلى الضرب ثانياً ولم يزالوا يضربونه حتى غشى عليه فقال الوالي: دعوه حتى يفيق وعيدوا عليه الضرب ثالث مرة، ثم أمر بضرب أصحابه كل واحد أكثر من ثلاثمائة عصا والنصير يقول لهم: افتحوا عيونكم وإلا جددوا عليكم الضرب ثم قال للوالي: ابعث معى من يأتيك بالمال، فإن هؤلاء ما يفتحون أعينهم ويخافون من فضيحتهم بين الناس فبعث الوالى معه من أتاه بالمال، فأخذه وأعطى الرجل منه ألفين وخمسمائة درهم على قدر حصته رغماً عنهم، وبقى أخى وباقى الثلاثة خارج المدينة فخرجت أنا يا أمير المؤمنين ولحقت أخى وسألته عن حاله فأخبرنى بما ذكرته لك فأدخلته المدينة سراً ورتبت له ما يأكل وما يشرب طول عمره.
فضحك الخليفة من حكايتى وقال: صلوه بجائزة ودعوه ينصرف فقلت له: والله ما آخذ شيئاً حتى أبين لأمير المؤمنين ما جرى لبقية أخوتى وأوضح له أنى قليل الكلام فقال الخليفة: أصدع آذاننا بخرافة خبرك وزدنا من عجرك وبجرك فقلت: وأما أخى الرابع يا أمير المؤمنين وهو الأعور فإنه كان جزاراً ببغداد يبيع اللحم ويربى الخرفان وكانت الكبار وأصحاب الأموال يقصدونه ويشترون منه اللحم فاكتسب من ذلك مالاً عظيماً واقتنى الدواب والدور، ثم أقام على ذلك زمناً طويلاً فبينما هو فى دكانه يوماً من الأيام إذ وقف عليه شيخ كبير اللحية فدفع له دراهم، وقال: أعطنى بها لحماً فأخذ الدراهم منه وأعطاه اللحم وانصرف، فتأمل أخى فى فضة الشيخ فرأى دراهمه بيضاً بياضها ساطع فعزلها وحدها فى ناحية وأقام الشيخ يتردد عليه خمسة أشهر وأخى يطرح دراهمه فى صندوق وحدها ثم أراد أن يخرجها ويشترى غنماً فلما فتح الصندوق رأى ما فيه ورقاً أبيض مقصوصاً فلطم وجهه وصاح، فاجتمع الناس عليه فحدثه بحديثه فتعجبوا منه.
ثم رجع أخى إلى الدكان على عادته فذبح كبشاً وعلقه خارج الدكان وصار يقول فى نفسه: لعل ذلك الشيخ يجيء فأقبض عليه فما كان إلا ساعة وقد أقبل الشيخ ومعه الفضة فقام أخى وتعلق به وصار يصيح: يا مسلمين ألحقونى واسمعوا قصتى مع هذا الفاجر، فلما سمع الشيخ كلامه قال له: أى شيء أحب إليك أن تعرض عن فضيحتى أو أفضحك بين الناس؟ فقال له: يا أخى بأى شيء تفضحني؟ قال: بأنك تبيع لحم الناس فى صورة لحم الغنم فقال له: يا أخى كذبت يا ملعون فقال الشيخ: ما ملعون إلا الذى عنده رجل معلق فى الدكان فقال له أخي: إن كان الأمر كما ذكرت مالى ودمى حلال لك فقال الشيخ: يا معاشر الناس، إن هذا الجزار يذبح الآدميين ويبيع لحمهم فى صورة لحم الغنم وإن أردتم أن تعلموا صدق قولى فادخلوا دكانه فهجم الناس على دكان أخى فرءوا ذلك الكبش صار إنساناً معلقاً فلما رأوا ذلك تعلقوا بأخى وصاحوا عليه: يا كافر يا فاجر وصار أعز الناس إليه يضربه ويلطمه الشيخ على عينه، فقلعها وحمل الناس ذلك المذبوح إلى صاحب الشرطة فقال له الشيخ: أيها الأمير إن هذا الرجل يذبح الناس ويبيع لحمهم على أنه لحم غنم وقد أتيناك به فقم واقض حق الله عز وجل فدافع أخى عن نفسه فلم يسمع منه صاحب الشرطة بل أمر بضربه خمسمائة عصا وأخذوا جميع ماله ولولا كثرة ماله لقتلوه ثم نفوا أخى من المدينة فخرج هائماً لا يدرى أين يتوجه فدخل مدينة كبيرة واستحسن أن يعمل إسكافياً ففتح دكاناً وقعد يعمل شيئاً يتقوت منه فخرج ذات يوم فى حاجة فسمع صهيل خيل فبحث على سبب ذلك فقيل له أن الملك خارج إلى الصيد والقنص فخرج أخى ليتفرج على الموكب وهو يتعجب من خسة رأيه حيث انتقل من صنعة الأساكفة فالتفت الملك وفقعت عينه على عين أخى فأطرق الملك رأسه، وقال: أعوذ بالله من شر هذا اليوم وثنى عنان فرسه، وانصرف راجعاً فرجع جميع العسكر وأمر الملك غلمانه أن يلحقوا أخى ويضربونه فلحقوه وضربوه ضرباً وجيعاً حتى كاد أن يموت ولم يدر أخى السبب فرجع إلى موضعه وهو فى حالة العدم ثم مضى إلى إنسان من حاشية الملك وقص عليه ما وقع له فضحك حتى استلقى على قفاه وقال له: يا أخى اعلم أن الملك لا يطيق أن ينظر إلى أعور لا سيما إن كان الأعور شمالاً فإنه لا يرجع عن قتله فلما سمع أخى ذلك الكلام عزم على الهروب من تلك المدينة
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.