نواصل اليوم الوقوف مع كلام الإمام القرطبى فى تفسيره المعروف بـ"الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان"، ونقرأ اليوم ما قاله فى تفسير سورة الفاتحة فى آية "إيك نعبد وإياك نستعين".
وفيها أربعة مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين، لأن من أول السورة إلى هاهنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه، كقوله: (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً)، ثم قال: (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً). وعكسه: (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: 22] على ما يأتي.
و(نَعْبُدُ) معناه نطيع، والعبادة الطاعة والتذلل. وطريق معبد إذا كان مذللا للسالكين، قاله الهروى. ونطق المكلف به إقرار بالربوبية وتحقيق لعبادة الله تعالى، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك. (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أى نطلب العون والتأييد والتوفيق.
قال السلمى فى حقائقه: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا حفص الفرغانى يقول: من أقر بـ ِ(إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فقد برئ من الجبر والقدر.
الثانية:
إن قيل لم قدم المفعول على الفعل؟ قيل له: قدم اهتماما، وشأن العرب تقديم الأهم. يذكر أن أعرابيا سب آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له الساب: إياك أعني: فقال له الآخر: وعنك أعرض، فقدما الأهم. وأيضا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود، فلا يجوز نعبدك ونستعينك، ولا نعبد إياك ونستعين إياك، فيقدم الفعل على كناية المفعول، وإنما يتبع لفظ القرآن.
الثالثة:
الجمهور من القراء والعلماء على شد الياء من (إِيَّاكَ) فى الموضعين. وقرأ عمرو بن قائد: (إياك) بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها. وهذه قراءة مرغوب عنها، فإن المعنى يصير: شمسك نعبد أو ضوءك، وإياة الشمس بكسر الهمزة: ضوءها، وقد تفتح.
فإن أسقطت الهاء مددت، ويقال: الإياة للشمس كالهالة للقمر، وهى الدارة حولها، وقرأ الفضل الرقاشى: (إِيَّاكَ) بفتح الهمزة وهى لغة مشهورة، وقرأ أبو السوار الغنوى: (هياك) فى الموضعين، وهى لغة.
الرابعة:
(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) عطف جملة على جملة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: (نَسْتَعِينُ) بكسر النون، وهى لغة تميم وأسد وقيس وربيعة، ليدل على أنه من استعان، فكسرت النون كما تكسر ألف الوصل. وأصل (نَسْتَعِينُ) نستعون، قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء، والمصدر استعانة، والأصل استعوان، قلبت حركة الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقى ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة، وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى، ولزمت الهاء عوضا.