نواصل، اليوم، الوقوف مع كلام الإمام القرطبى فى تفسيره المعروف بـ"الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان"، ونقرأ اليوم ما قاله فى تفسير سورة البقرة فى الآية الثالثة "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون"،وفيها خمس وعشرون مسألة:
الأولى:
قوله: (الَّذِينَ) فى موضع خفض نعت (لِلْمُتَّقِينَ)، ويجوز الرفع على القطع أى هم الذين، ويجوز النصب على المدح. (يُؤْمِنُونَ) يصدقون. والإيمان فى اللغة: التصديق، وفى التنزيل: (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أى بمصدق، ويتعدى بالباء واللام، كما قال: (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}... (فَما آمَنَ لِمُوسى).
الثانية:
قوله تعالى: (بِالْغَيْبِ) الغيب فى كلام العرب كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء، يقال منه: غابت الشمس تغيب، والغيبة معروفة. وأغابت المرأة فهى مغيبة إذا غاب عنها زوجها، ووقعنا فى غيبة وغيابة، أى هبطه من الأرض، والغيابة: الأجمة، وهى جماع الشجر يغاب فيها، ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر.
الثالثة:
واختلف المفسرون فى تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب فى هذه الآية: الله سبحانه. وضعفه ابن العربي.
وقال آخرون: القضاء والقدر.
وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب.
وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدى إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها.
قلت: وهذا هو الايمان الشرعى المشار إليه فى حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأخبرنى عن الايمان. قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: صدقت. وذكر الحديث.
وقال عبد الله بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 3].
قلت: وفى التنزيل: (وَما كُنَّا غائِبِينَ) وقال: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}. فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مرئى فى هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال، فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازى على الأعمال، فهم يخشونه فى سرائرهم وخلواتهم التى يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم باطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآى ولا تتعارض، والحمد لله.
وقيل: (بِالْغَيْبِ) أى بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين، وهذا قول حسن.
الرابعة:
قوله تعالى: (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) معطوف جملة على جملة. وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها فى أوقاتها، على ما يأتى بيانه. يقال: قام الشيء أى دام وثبت، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك: قام الحق أى ظهر وثبت.
الخامسة:
إقامة الصلاة معروفة، وهى سنة عند الجمهور، وأنه لا إعادة على تاركها. وعند الأوزاعى وعطاء ومجاهد وابن أبى ليلى هى واجبة وعلى من تركها الإعادة، وبه قال أهل الظاهر، وروى عن مالك، واختاره ابن العربى.
السادسة:
واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع أولا؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا». رواه أبو هريرة أخرجه مسلم.
السابعة:
واختلف العلماء فى تأويل قوله عليه السلام: «وما فاتكم فأتموا» وقوله: «واقض ما سبقك» هل هما بمعنى واحد أو لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام، قال الله تعالى: (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) وقال: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ}.
الثامنة:
الإقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» خرجه مسلم وغيره، فأما إذا شرع فى نافلة فلا يقطعها، لقوله تعالى: (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) وخاصة إذا صلى ركعة منها.
وقيل: يقطعها لعموم الحديث فى ذلك. والله أعلم.
التاسعة:
واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتى الفجر ثم أقيمت الصلاة، فقال مالك: يدخل مع الامام ولا يركعهما، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد، ولا يركعهما فى شيء من أفنية المسجد التى تصلى فيها الجمعة اللاصقة بالمسجد، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب، ولان يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلى وأفضل من تركهما وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشى أن تفوته الركعتان ولا يدرك الامام قبل رفعه من الركوع فى الثانية دخل معه، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتى الفجر خارج المسجد، ثم يدخل مع الامام وكذلك قال الأوزاعي، إلا أنه يجوز ركوعهما فى المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة.
العاشرة:
الصلاة أصلها فى اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلى إذا دعا، ومنه قوله عليه السلام: «إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل أى فليدع».
الحادية عشرة:
اختلف الأصوليون هل هى مبقاة على أصلها اللغوى الوضعى الابتدائي، وكذلك الايمان والزكاة والصيام والحج، والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام، أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائى من قبل الشرع. هنا اختلافهم والأول أصح، لأن الشريعة ثبتت بالعربية، والقرآن نزل بها بلسان عربى مبين، ولكن للعرب تحكم فى الأسماء، كالدابة وضعت لكل ما يدب، ثم خصصها العرف بالبهائم فكذلك لعرف الشرع تحكم فى الأسماء، والله أعلم.
الثانية عشرة:
واختلف فى المراد بالصلاة هنا، فقيل: الفرائض.
وقيل: الفرائض والنوافل معا، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام والمتقى يأتى بهما.
الثالثة عشرة:
الصلاة سبب للرزق، قال الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) [طه: 132] الآية، على ما يأتى بيانه فى طه إن شاء الله تعالى. وشفاء من وجع البطن وغيره، روى ابن ماجه عن أبى هريرة قال: هجر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهجرت فصليت ثم جلست، فالتفت إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إشكمت درده قلت: نعم يا رسول الله، قال: قم فصل فإن فى الصلاة شفاء». فى رواية: «إشكمت درد» يعنى تشتكى بطنك بالفارسية، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
الرابعة عشرة:
الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض، فمن شروطها: الطهارة، وسيأتى بيان أحكامها فى سورة النساء والمائدة. وستر العورة، يأتى فى الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى. وأما فروضها: فاستقبال القبلة، والنية، وتكبيرة الإحرام والقيام لها، وقراءة أم القرآن والقيام لها، والركوع والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه، والسجود والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من السجود، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجود الثانى والطمأنينة فيه.
الخامسة عشرة:
وأما التسبيح فى الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور، وأوجبه إسحاق بن راهويه، وأن من تركه أعاد الصلاة، لقوله عليه السلام: «أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فى الدعاء فقمن أن يستجاب لكم».
السادسة عشرة:
وأما الجلوس والتشهد فاختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك وأصحابه: الجلوس الأول والتشهد له سنتان. وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأول وقالوا: هو مخصوص من بين سائر الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعرايا من المزابنة، والقراض من الإجارات، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الامام راكعا. واحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان العامد لتركه تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة. احتج من لم يوجبه بأن قال: لو كان من فرائض الصلاة لرجع الساهى عنه إليه حتى يأتى به، كما لو ترك سجدة أو ركعة، ويراعى فيه ما يراعى فى الركوع والسجود من الولاء والرتبة، ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وأتى بهما.
السابعة عشرة
على خمسة أقوال:
أحدها: أن الجلوس فرض والتشهيد فرض والسلام فرض.
القول الثاني: أن الجلوس والتشهد والسلام ليس بواجب، وإنما ذلك كله سنة مسنونة، هذا قول بعض البصريين.
القول الثالث: إن الجلوس مقدار التشهد فرض، وليس التشهد ولا السلام بواجب فرضا.
القول الرابع: إن الجلوس فرض والسلام فرض، وليس التشهد بواجب.
القول الخامس: أن التشهد والجلوس واجبان، وليس السلام بواجب.
الثامنة عشرة:
واختلف العلماء فى السلام، فقيل: واجب، وقيل: ليس بواجب. والصحيح وجوبه لحديث عائشة وحديث على الصحيح خرجه أبو داود والترمذى ورواه سفيان الثورى عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن على قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» وهذا الحديث أصل فى إيجاب التكبير والتسليم، وأنه لا يجزئ عنهما غيرهما كما لا يجزئ عن الطهارة غيرها باتفاق.
التاسعة عشرة:
فقال ابن شهاب الزهرى وسعيد بن المسيب والأوزاعى وعبد الرحمن وطائفة: تكبيرة الإحرام ليست بواجبة. وقد روى عن مالك فى المأموم ما يدل على هذا القول، والصحيح من مذهبه إيجاب تكبيرة الإحرام وأنها فرض وركن من أركان الصلاة، وهو الصواب وعليه الجمهور، وكل من خالف ذلك فمحجوج بالسنة.
العشرون:
واختلف العلماء فى اللفظ الذى يدخل به فى الصلاة، فقال مالك وأصحابه وجمهور العلماء: لا يجزئ إلا التكبير، لا يجزئ منه تهليل ولا تسبيح ولا تعظيم ولا تحميد. هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين، ولا يجزئ عند مالك إلا الله أكبر لا غير ذلك
الحادية والعشرون:
واتفقت الامة على وجوب النية عند تكبيرة الإحرام إلا شيئا روى عن بعض أصحابنا يأتى الكلام عليه فى آية الطهارة، وحقيقتها قصد التقرب إلى الآمر بفعل ما أمر به على الوجه المطلوب منه.
الثانية والعشرون:
قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) رزقناهم: أعطيناهم، والرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما، خلافا للمعتزلة فى قولهم: إن الحرام ليس برزق لأنه لا يصح تملكه، وإن الله لا يرزق الحرام وإنما يرزق الحلال، والرزق لا يكون إلا بمعنى الملك. قالوا: فلو نشأ صبى مع اللصوص ولم يأكل شيئا إلا ما أطعمه اللصوص إلى أن بلغ وقوى وصار لصا، ثم لم يزل يتلصص ويأكل ما تلصصه إلى أن مات، فإن الله لم يرزقه شيئا إذ لم يملكه، وإنه يموت ولم يأكل من رزق الله شيئا. وهذا فاسد، والدليل عليه أن الرزق لو كان بمعنى التمليك لوجب ألا يكون الطفل مرزوقا، ولا البهائم التى ترتع فى الصحراء، ولا السخال من البهائم، لأن لبن أمهاتها ملك لصاحبها دون السخال.
الثالثة والعشرون:
قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) الرزق مصدر رزق يرزق رزقا ورزقا، فالرزق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وجمعه أرزاق، والرزق: العطاء. والرازقية: ثياب كتان بيض. وارتزق الجند: أخذوا أرزاقهم. والرزقه: المرة الواحدة، هكذا قال أهل اللغة.
الرابعة والعشرون:
قوله تعالى: (يُنْفِقُونَ) ينفقون: يخرجون. والإنفاق: إخراج المال من اليد، ومنه نفق البيع: أى خرج من يد البائع إلى المشتري. ونفقت الدابة: خرجت روحها، ومنه النافقاء لجحر اليربوع الذى يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى. ومنه المنافق، لأنه يخرج من الايمان أو يخرج الايمان من قلبه. ونيفق السراويل معروفة وهو مخرج الرجل منها. ونفق الزاد: فنى وأنفقه صاحبه. وأنفق القوم: فنى زادهم، ومنه قوله تعالى: (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) [الإسراء: 100].
الخامسة والعشرون:
واختلف العلماء فى المراد بالنفقة هاهنا، فقيل: الزكاة المفروضة روى عن ابن عباس لمقارنتها الصلاة.
وقيل: نفقة الرجل على أهله روى عن ابن مسعود لان ذلك أفضل النفقة. روى مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دينار أنفقته فى سبيل الله ودينار أنفقته فى رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذى أنفقته على أهلك». وروى عن ثوبان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته فى سبيل الله عز وجل ودينار ينفقه على أصحابه فى سبيل الله» قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال ثم قال أبو قلابة: وأى رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم.
وقيل: المراد صدقة التطوع روى عن الضحاك نظرا إلى أن الزكاة لا تأتى إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة، فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة احتملت الفرض والتطوع، فإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم تكن إلا التطوع. قال الضحاك: كانت النفقة قربانا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر جدتهم حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات فى براءة.
وقيل: إنه الحقوق الواجبة العارضة فى الأموال ما عدا الزكاة، لأن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضا، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها.
وقيل: هو عام وهو الصحيح، لأنه خرج مخرج المدح فى الإنفاق مما رزقوا، وذلك لا يكون إلا من الحلال، أى يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يعن فى بعض الأحوال مع ما ندبهم إليه.
وقيل: الايمان بالغيب حظ القلب. وإقام الصلاة حظ البدن. ومما رزقناهم ينفقون حظ المال، وهذا ظاهر.
وقال بعض المتقدمين فى تأويل قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أى مما علمناهم يعلمون، حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيرى.