نواصل اليوم الوقوف مع كلام الإمام القرطبى فى تفسيره المعروف بـ"الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان"، ونقرأ اليوم ما قاله فى تفسير سورة البقرة فى الآية الخامسة "أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
قال النحاس أهل نجد يقولون: ألاك، وبعضهم يقول: ألا لك، والكاف للخطاب. قال الكسائي: من قال أولئك فواحدة ذلك، ومن قال ألاك فواحدة ذاك، وألالك مثل أولئك، وأنشد ابن السكيت:
ألا لك قومى لم يكونوا أشابه ** وهل يعظ الضليل إلا ألالكا
وربما قالوا: أولئك فى غير العقلاء، قال الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام
وقال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) [الإسراء: 36] وقال علماؤنا: إن فى قوله تعالى: (مِنْ رَبِّهِمْ) ردا على القدرية فى قولهم: يخلقون إيمانهم وهداهم، تعالى الله عن قولهم ولو كان كما قالوا لقال: (مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، وقد تقدم الكلام فيه وفى الهدى فلا معنى لإعادة ذلك. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)... (رَبِّهِمْ) يجوز أن يكون مبتدأ ثانيا وخبره (الْمُفْلِحُونَ)، والثانى وخبره خبر الأول، ويجوز أن تكون (رَبِّهِمْ) زائدة يسميها البصريون فاصلة والكوفيون عمادا و{الْمُفْلِحُونَ) خبر (أُولئِكَ).
والفلح أصله فى اللغة الشق والقطع، قال الشاعر:
إن الحديد بالحديد يفلح
أى يشق، ومنه فلاحه الأرضين إنما هو شقها للحرث، قال أبو عبيد. ولذلك سمى الأكار فلاحا. ويقال للذى شقت شفته السفلى أفلح، وهو بين الفلحة، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. وقد يستعمل فى الفوز والبقاء، وهو أصله أيضا فى اللغة، ومنه قول الرجل لامرأته: استفلحى بأمرك، معناه فوزى بأمرك، وقال الشاعر:
لو كان حى مدرك الفلاح ** أدركه ملاعب الرماح
وقال الأضبط بن قريع السعدى فى الجاهلية الجهلاء:
لكل هم من الهموم سعة ** والمسى والصبح لا فلاح معه
يقول: ليس مع كر الليل والنهار بقاء.
وقال آخر:
نحل بلادا كلها حل قبلنا ** ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير
أى البقاء: وقال عبيد:
أفلح بما شئت فقد يدرك بالض ** عف وقد يخدع الأريب
أى أبق بما شئت من كيس وحمق فقد يرزق الأحمق ويحرم العاقل. فمعنى: (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أى الفائزون بالجنة والباقون فيها.
وقال ابن أبى إسحاق: المفلحون هم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر مأمنه هربوا، والمعنى واحد. وقد استعمل الفلاح فى السحور، ومنه الحديث: حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور. أخرجه أبو داود. فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سماه فلاحا. والفلاح بتشديد اللام: المكارى فى قول القائل:
لها رطل تكيل الزيت فيه ** وفلاح يسوق لها حمارا
ثم الفلاح فى العرف: الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
مسألة: إن قال قائل كيف قرأ حمزة: عليهم واليهم ولديهم، ولم يقرأ من ربهم ولا فيهم ولا جنتيهم؟ فالجواب أن عليهم واليهم ولديهم الياء فيه منقلبة من ألف، والأصل علاهم ولداهم وإلاهم فأقرت الهاء على ضمتها، وليس ذلك فى فيهم ولا من ربهم ولا جنتيهم، ووافقه الكسائى في: (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) و(إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) على ما هو معروف من القراءة عنهما.