تحل اليوم "الاثنين" الذكرى الواحدة والعشرون لرحيل الشيخ محمد متولى الشعراوى عن الحياة الدنيا، فيما يبقى حاضرًا دوما فى قلب الحياة الروحية والثقافية للملايين، وهو بحق "إمام الدعاة وفارس اللغة العربية وعاشقها الكبير" بقدر ما هو "قامة ثقافية شامخة وفارس للوسطية المصرية وأحد ابرز اعلام مجددى الخطاب الدينى فى العصر الحديث".
وإذا كانت قضايا مواجهة الفكر المتطرف والمجافى للوسطية الاسلامية، كما تجلت فى رسالة الحبيب المصطفى للعالمين ليست وليدة اليوم فلعلنا بحاجة لقراءة جديدة فى تراث مضىء لأعلام الدعاة وكوكبة من علماء الأزهر الشريف وفى طليعتهم الشيخ محمد متولى الشعراوى الذى كان أيضا صاحب ابداعات أدبية وإسهامات ثقافية زادت من ثراء الثقافة المصرية بتنوعها الذى يزيد قوتها وجاذبيتها.
والشيخ محمد متولى الشعراوى ولد فى الخامس عشر من ابريل عام 1911 ببلدة دقادوس فى محافظة الدقهلية ورحل عن الحياة الدنيا فى السابع عشر من يونيو عام 1998 يشكل ظاهرة متفردة فى مجال الدعوة واستخدام أدوات الإعلام للتواصل مع الجماهير فى كل مكان لتتوحد رغم اختلاف الأنماط والفئات العمرية حول أحاديثه التى تكشف عن قدرات لغوية ومعرفية ومهارات اتصالية فذة.
وسواء على مستوى الجماهير أو النخب الثقافية، هناك اتفاق على أن الشعراوى من أعظم مفسرى القرآن الكريم بوسائل الإعلام فى العصر الحديث غير أنه اعتبر ما يقدمه على شاشات التلفزيون "خواطر" حول القرآن وهى "هبات صفائية تخطر على قلب مؤمن فى آية أو بضع آيات".
وبقدرة فذة على التواصل مع الجماهير بطريقة "السهل الممتنع والمزج بين العمق والبساطة" وبلغة ومفردات تجمع ما بين عبقرية اللغة وفتوحات الإلهام والحب المخلص للرسالة المحمدية الخالدة وتقديم المتعة الروحية اتخذ الشعراوى اللغة كمنطلق لفهم النص القرآنى "حتى بات يشكل نسيجا وحده" فيما تستمر مشاهد "تحلق الجماهير حول أجهزة التلفزة لسماع خواطره الإيمانية وأفكاره المعبرة عن وسطية لاريب فيها" دالة على عمق حضوره فى الوجدان المصرى.
وثمة كتابات وشهادات منشورة لمن قدر لهم أن يعرفوا عن قرب الشيخ محمد متولى الشعراوى تؤكد أنه كان "يتمتع بسرعة البديهة وخفة الدم المصرية كواحد من أولاد البلد وأبعد ما يكون عن الغلظة أو الفظاظة والتجهم جنبا إلى جنب مع البعد عن الابتذال" فى معادلة دقيقة من معادلات الوسطية التى أبدعتها الشخصية التاريخية للمصريين وهى شخصية ترفض التطرف والعنف ولا يمكن أن تقبل الإرهاب.
وفى كتابه "مع الشيخ الشعراوى" الصادر عن دار المعارف ينقل الكاتب رجب البنا عن الشيخ محمد متولى الشعراوى قوله: إن "الإرهاب ليس فى الإسلام" موضحا أن أعداء الدين "عملوا على إفساد العقيدة وإثارة التعصب لهدم الأساس الذى يقوم عليه الإسلام وهو التسامح وحرية العقيدة" فيما لفت إلى "وضوح الضلال فى دعاوى الجماعات الإرهابية" وهى جماعات ليس من شأنها "إلا تفريق المسلمين".
وكان الكاتب والشاعر فاروق جويدة قد انتقد من قبل ما وصفه "بنوع من الشطط فى الآراء والأحكام التى يطلقها البعض فى حق رموز كالشيخ محمد متولى الشعراوى" مؤكدا أنه " للحق والأمانة وقد عرف الشيخ عن قرب كان حائط صد كبيرا أمام الكثير من موجات العنف والتطرف".
ومن المثير للتأمل أنه رغم اختلاف المسارات فى رحلة الحياة بين اثنين من الآباء الثقافيين المصريين كالشيخ محمد متولى الشعراوى والكاتب النوبلى نجيب محفوظ إلا أنهما اتفقا فى "خفة الظل وسرعة البديهة وحب الفكاهة البريئة والمسامرات الأدبية حتى أن الذاكرة الثقافية المصرية لن تنسى أن نجيب محفوظ تفوق فى منازلات مع أساطين القافية فى مقاهى القاهرة المعزية كما تفوق الشيخ الشعراوى فى منازلات أدبية ذات طابع فكاهى مع مشاهير الظرفاء فى الأدب المصرى مثل الشاعر عبد الحميد الديب".
وتوضح صفحات سيرته أن جسور الصداقة امتدت بينه وبين زملاء من الشباب عرفتهم فيما بعد الحياة الأدبية والثقافية المصرية والعربية باعتبارهم من المبدعين وفقهاء اللغة وأصحاب الأقلام مثل الشاعر طاهر أبو فاشا والمفكر خالد محمد خالد والأكاديمى والناقد الدكتور أحمد هيكل الذى تبوأ منصب وزير الثقافة والشاعر الدكتور حسن جاد والأكاديمى الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى.
وقد كتب الشيخ الشعراوى قصائد كثيرة، واعتبر الشاعر فاروق جويدة أن قصيدته فى مدح عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين هى من أهم هذه القصائد مشيرا إلى أنه كان محبا للشعر بكل ألوانه فيما يستعيد ذكريات حضور الشعراوى لعرض مسرحية "دماء على ستار الكعبة" فى المسرح القومى، حيث توقف المرور فى ميدان العتبة وامتلأ المسرح بالآلاف.
وتكشف شهادات فنانين عرفو الشعراوى مثل الفنان حسن يوسف الذى قام بآداء شخصيته فى مسلسل تلفزيونى بعنوان "إمام الدعاة" عن تقدير الشيخ محمد متولى الشعراوى لرسالة الفن الهادف والملتزم.