تمر اليوم ذكرى ميلاد الشاعر الكبير أمل دنقل، الذى ولد فى 23 يونيو من عام 1940، ونتذكر معا بعضا من حياته مما كتبه الصحفية الكبيرة، زوجته، عبلة الروينى فى كتابها الجنوبى، حيث كتبت تحت عنوان "البحث عن المحارب الفرعونى"..
كان مقهى ريش هو بداية الطريق إلى أمل دنقل، إنه الملامح والمكان والهوية الذى بدأت منه رحلة البحث عن شاعر، لا أعرف ملامح وجهه.
الزمان أكتوبر 1975.
عندما فكرت، خلال فترة التدريب الأولى فى جريدة الأخبار، وقبل أن يتم تعيينى، فى كسر الإشارات الحمراء والخضراء والصفراء، وإجراء حوار مع الشاعر أمل دنقل. قال لى أحد المحررين السياسيين فى جريدة أخبار اليوم: ستجدين صعوبة فى نشر اللقاء، فأمل شاعر يسارى، لن تسمح الجريدة بنشر حوار معه، لكن ربما يمكنهم نشره فى طبعة أخبار اليوم العربية، فمن الممكن تصدير أمل دنقل عربيًا، لكنه غير مسموح باستهلاكه داخل مصر!!
أصابتنى كلماته بصاعقة فجرت مساحات التحدى داخلى، وأطلقت لأفكار مثالية أبعد من سياسة الجريدة عنان الحركة، فلماذا تأخذ الجريدة موقفًا من شاعر؟ بل كيف تأخذ الجريدة موقفًا من عقل الصحفى؟ سأجرى الحوار!
ضحك ساخرًا: إذن حذار منه، ستجدينه سليط اللسان، شديد القبح مثل كل الشيوعيين تشمين رائحتهم عن بعد.
رحت أبحث عن مقهى ريش فى الزمان الذى أعرفه "صباحًا"، مررت أمام مقاهى طلعت حرب أسأل مقهى مقهى حتى وصلت، لم يكن ريش يختلف كثيرًا من حيث الشكل عن باقى مقاهى القاهرة، بل إن شكله الخارجى لم ينم عن كونه ملتقى الأدباء، أو حتى عنوانًا أنيقًا لشاعر.
أسأل الجرسون: الشاعر أمل دنقل؟
غير موجود
ترددت أكثر من مرة على المقهى، وفى كل مرة كان الزمان صباحًا، وفى كل مرة لا أجد أمل دنقل.
رفق بى أحد الجرسونات: الأستاذ أمل لا يأتى إلا فى المساء.
ولأنى أسكن منطقة مصر الجديدة البعيدة، فقد كان من الصعب على العودة مرة أخرى فى المساء، فتركت رسالة صغيرة: الأستاذ أمل دنقل، يبدو أن العثور عليك مستحيل، يسعدنى الاتصال بى فى جريدة الأخبار، ويشرفنى أكثر حضورك.
اكتفى الشاعر بإسعادى، متصلًا صباحًا بالجريدة ومحددًا موعدًا للقاء، الثامنة مساء فى دار الأدباء بشارع القصر العينى.
فيما بعد أدركت أن اتصال أمل بى وفى جريدة الأخبار صباحًا يعتبر حدثًا فى حياته من الصعب تكراره، ولعلها رقة سطور الرسالة التى تركتها –كما قال لى- ولعله القدر الذى يرسم صورة مستقبل قادم، ويحتم اللقاء بهذا المحارب الفرعونى القديم.
فى الثامنة تماًما كنت فى دار الأدباء، المكان شديد الازدحام بجمهور الأمسية الأدبية، فاليوم الأربعاء، موعد ندوة الدار الأسبوعية.
صارت الساعة الثامنة والنصف وأنا لا أعرف ملامح وجه أمل، أسأل فيقال لى لم يأت بعد، بعد قليل همس شاب: الأستاذ أمل هو ذلك الجالس فى نهاية الصفوف، اقتربت من الصف الأخير حيث يجلس شخصان: الأستاذ أمل دنقل؟
تفحصنى أحدهما بهدوء ثم قال: سعادتى! لم يستفزنى الرد، بقدر ما أعجبتنى تلك المحاولة للغرور، فابتسمت، طلب لى فنجانًا من القهوة، ورحت أحدثه عن سبب اللقاء ورغبتى فى إجراء حوار معه، فوافق بسهولة عكس ما قيل لى.
قلت: كنت أظنك أكبر قليلًا!
ضحك بصوت مرتفع: يبدو أن عندك عقدة الكترا!
ولم استفز أيضًا بل ابتسمت: اطمئن لن أحبك!
كان الانطباع الأول الذى كونته سريعًا، أن هذا الشخص مختلف عن الآخرين، يتكلم لغة أخرى، يسلك سلوكًا آخر، بل ويحس أحاسيس أخرى منذ اللحظة الأولى سقطت كل المسافات والإدعاءات والأقنعة، وبدا لى وجه صديق أعرفه من زمن.