مع نفحات أيام كريمة يتدفق المصريون على الأسواق استعدادا لعيد الأضحى المبارك فيما تعبر تلك الأسواق عن الثقافة الشعبية للمصريين وفطرتهم المؤمنة والطيبة وانتصارهم للحياة فى مواجهة قوى الشر والظلام.
والسوق كمكان وطقوس ومفردات لغة مصدر إلهامات ثقافية متعددة وكتابات متنوعة تتناول العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والأبعاد الثقافية لهذا المكان الذى يعبر أفضل تعبير عن صور الحياة فى أى بلد ناهيك عن متغيرات الزمن كما يتجلى فى كتاب أصدره البريطانى كريس اندرسون بعنوان "الذيل الطويل" الذى نحت فيه أيضا مصطلحات جديدة مثل "أسواق المشكاة أو الكوة الجديدة لفرص التسويق التى تتيحها شبكة الإنترنت.
كما يمكن تأمل كتابات تتحدث عن تأثير قضايا دولية مثل "الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين" على الأسواق فى كل مكان حول العالم ناهيك عن تبنى دولة مثل كوبا "لاقتصاد السوق" وهو مصطلح كان من قبل يدخل فى باب المحرمات بتلك الدولة التى كانت فى الماضى تنتهج خطا اشتراكيا متشددا.
والسوق ككلمة تحظى برحابه فى قواعد اللغة العربية فهى قابلة لأن تذكر وتؤنث كما أنها تقدم للغة الكثير من "مفردات البيع والشراء" ناهيك عن أنها ذاكرة حية للثقافة الشعبية على مر العصور.
وفى العصر الرقمى يمكنك أن تجد على مواقع التواصل الاجتماعى مثل "فيس بوك" صفحات مخصصة لأسواق المواشى والأسعار للأبقار والأغنام والجمال وتقدم بعض المواقع الإلكترونية فى مصر عروض البيع من خلال تلك المواقع مع تنويهات بتقديم خدمات "الذبح والتقطيع والتغليف والتوصيل حسب طلب العميل".
وإذا كانت هذه الأسواق الإنترنتية تنشط فى تلك الأيام قبيل حلول عيد الأضحى المبارك فالسوق ككل فى مصر يقترن بالكثير من المأثورات الشعبية والحكمة التى تتوارثها الأجيال بالعامية الدارجة مثل:"بين الشارى والبايع يفتح الله" و"رجل فى السوق ولا مال بالصندوق"و"أول بيعة من دهب" و"اللى بيحضر السوق بيتسوق".
وأسواق المواشى المنتشرة فى كل المحافظات تستقبل الراغبين فى شراء الأضاحى استعدادا لعيد الأضحى المبارك وتصل ذروة حركة البيع والشراء فيها خلال الأيام العشرة الأوائل من شهر ذى الحجة لتتردد أسماء أسواق شهيرة مثل "سوق المواشى بمنطقة البراجيل" فى محافظة الجيزة كما أن بعضها يقع فى أحياء عريقة كحى السيدة زينب القاهرى ويبحث كل زبون عن الأضحية التى تناسبه وقد يتشارك مع شخص أو أشخاص آخرين فى شراء الأضحية لتقليل التكلفة.
وبين المشترى والبائع تدور عادة مفاوضات وصولا لسعر يناسب الطرفين فى "بيعة حلال بأيام مفترجة".
وفى بلدة "برقاش" بمحافظة الجيزة سوق من أكبر وأشهر أسواق الجمال فى مصر ومن الطبيعى أن تنشط حركة البيع والشراء بسوق الجمال مع اقتراب عيد الأضحى وشراء الأضاحى كما أنه بمساحته التى تصل ل25 فدانا وآلاف الإبل من الأماكن المثيرة للفضول والجاذبة للسائحين الأجانب.
وأسواق الجمال تنشط فى كل مكان بدول العالم الإسلامى فى تلك الأيام وها هى وسائل إعلام غربية تتحدث عن الرواج فى حركة البيع والشراء "بسوق الجمال فى مدينة لاهور الباكستانية" وحتى الآن يمكن للعين أن ترى على واجهات وجدران بيوت مصرية رسومات للحج تظهر فيها الجمال التى كانت تستخدم من قبل فى رحلات الحج حتى تطورت إلى البواخر والطائرات.
وإذ يهب نسيم نفحات مباركة مع رحلات الحجيج لمكة المكرمة فإن طرق الحج تشكل مددا وفضاء للإبداع والثقافة والتواصل الإنسانى والحضارى والذاكرة الثقافية التاريخية لطرق الحج تقول مثلا إن "درب الأربعين" كان يتقاطع مع "طريق المغرب العربي" الذى كانت رحلات الحج والقوافل التجارية تمر عبره فيما كانت القوافل تعبر "طريق الأربعين" التجارى القديم إلى دارفور فى السودان ومنها إلى أعماق أفريقيا.
و"مدينة الباويطي" وهى مركز الواحات البحرية أخذت اسمها من "الشيخ حسن أبى يعقوب بن يحيى الباويطي" وهو أحد علماء الدين المغاربة وقد آثر البقاء بين سكان هذه الواحة المصرية خلال عودته من الحج شأنه فى ذلك شأن عشرات من الشيوخ والمتصوفة المغاربة الذين زخرت بهم المدن والقرى المصرية بأسواقها العامرة.
وكتب التاريخ وكتابات لمؤرخين كبار مثل الكاتب المصرى الراحل الدكتور حسين مؤنس تقول إن مصر استقبلت الكثير من الأشقاء الأفارقة القادمين عبر "طريق الحج" القديم قبل عصر النقل الجوى وأن القوافل القادمة من عمق أفريقيا كانت حتى تنزل فى مدينة قوص بمحافظة قنا ثم تعبر الصحراء الشرقية وصولا للبحر الأحمر ومنه للحرمين الشريفين أو يصعد بعضهم مع النيل إلى القاهرة ومنها يواصلون رحلتهم الروحية مع أشقائهم من الحجاج المصريين عبر مدينة السويس.
ولم تكن الأسواق غائبة عن هذا المشهد التاريخى حسب ملاحظة المفكر الاستراتيجى المصرى الراحل جمال حمدان الذى أوضح أن طريق الحج القديم وهو يخترق العمق الأفريقى ويمر ببلدان كثيرة كان طريقا من طرق التجارة العالمية كطريق الحرير الذى كان يعبر من عمق آسيا إلى أوروبا.
ويقول عضو اتحاد المؤرخين العرب إبراهيم عنانى إن مصر كانت معبرا تاريخيا للحجاج "وكانت محطات الطريق عبارة عن أسواق تجارية".. موضحا فى دراسة تاريخية أن منطقة "نخل" فى سيناء كانت بها أكبر الأسواق فى طريق الحج المصري".
فرحلات الحج من منظور التاريخ انطوت على أثار اجتماعية واقتصادية وثقافية متعددة بالنسبة للإنسان المصرى وشكلت مددا ثقافيا وإبداعيا فيما تبقى طقوس البهجة للمصريين فى عيد الأضحى شاهدة على ثقافة شعب متدين بطبيعته ومحتفل بالحياة كما تعبر الأسواق فى ربوع مصر.
وإذا كان الروائى المصرى الراحل فؤاد قنديل قد أبدع رواية بعنوان :"سوق الجمعة" فإن هذا المكان يبدو كعالم ساحر بعبق التاريخ ومعالمه ومفرداته ومن هنا ليس من الغريب أن يتحول لمصدر إلهام للروائيين بعالمه الحافل بالعجائب.
فسوق الجمعة الذى يقع بالقرب من مسجد الإمام الشافعى تباع فيه بضائع شتى وسلع مستعملة ليستحق وصف "سوق العجائب" يضم فى الواقع عدة أسواق من بينها سوق للهواتف المحمولة والأدوات الكهربية و"سوق الحمام" الذى تباع فيه أنواع مختلفة من الطيور، فضلا عن الحيوانات الأليفة.
ومن الأسواق الشعبية المصرية التى تحمل أسماء بعض أيام الأسبوع والشهيرة أيضا بمعروضاتها المتنوعة:"سوق الاثنين" بحى عابدين فى القاهرة و "سوق الخميس" بحى المطرية القاهرى وسوق الثلاثاء" بمنطقة المنيب فى الجيزة بينما تعرف مدينة منوف فى محافظة المنوفية "سوق السبت" كما يمكن للعين أن ترى أنواعا شتى من الأزياء فى الأسواق.
وإن تحدثت كتابات ودراسات تاريخية عن "سوق الحلاويين" عند "باب زويلة" فى قاهرة العصور الوسطى وهو الذى كان يتحدى كل أسواق العالم بمعروضاته من ألوان وتلال الحلوى فإن القاهرة ما زالت تحتضن أسواقا تاريخية كسوق الموسكى وسوق العتبة ناهيك عن الغورية وخان الخليلى وشارع الصاغة والمناصرة ووكالة البلح، فضلا عن سوق "حمام التلات" المتخصص فى تجهيزات العروس.
وحتى الآن مازال "سوق الخضار والفاكهة القديم فى حى روض الفرج" بشمال القاهرة والذى نقل منذ سنوات "لمدينة العبور" يثير نوعا من الحنين لدى من عرفوا هذا المكان فيما كان مصدر إلهام حتى فى الفن السابع أو السينما ليظهر فى أفلام من أشهرها فيلم "الفتوة" الذى أنتج عام 1957 وكان من إخراج صلاح أبو سيف وبطولة فريد شوقى وتحية كاريوكا وزكى رستم.
وواقع الحال أن الأسواق فى الأحياء الشعبية تعبر حقا عن روح مصر وملامحها الأصيلة وهوية شعبها المنتصر دوما للحياة والمقاوم دائما لكل قوى الشر والبغى كما تحمل مشاعر القلوب الدافئة وطيبة وسماحة البشر فى مصر المحروسة وتعبيراتهم الطريفة.
وهكذا يحق القول إن للأسواق المصرية خصوصيتها وحميميتها المعبرة عن ثراء الهوية والطقوس الاحتفالية للمصريين وهم فى الحقيقة يحتفلون بالحياة بقدر ما يؤمنون بحتمية الموت والبعث ويوم الحساب والفارق كبير والبون شاسع بين هذه النظرة الإيمانية المصرية للوجود والحياة والموت وبين منظور الإرهاب الظلامى العميل لقوى الشر.
لكن الإرهاب لن ينجح فى فرض الخوف على المصريين وتلك حقيقة تتجلى الآن فى كل أوجه الحياة المصرية ومن بينها الأسواق التى تكشف ضمن سياقاتها المتعددة عن حقيقة الروح المصرية المؤمنة والمنتصرة للحياة فى مواجهة أعداء الحياة وقوى الشر والبغي.
وإذا كان أعداء مصر والمصريين راغبين عبر الإرهاب الأسود فى فرض التشاؤم واليأس على أوجه الحياة المصرية فإن أمانيهم المريضة لن تتحقق أبدا لأن اليأس لم يكن أبدا ولن يكون خيارا للمصريين وأى قراءة متعمقة للتاريخ الثقافى للمصريين تكشف بوضوح عن هذه الحقيقة وتؤكد أن التفاؤل سمة أصيلة للإنسان المصرى مهما واجه من تحديات.
فتحية للمصريين وهم فى رباط إلى يوم الدين يتحركون بنور الإيمان وثقافتهم الوسطية الأصيلة لحماية أحلام المستقبل وعازمين على دحر هؤلاء الذين يسعون فى الأرض فسادا.. تحية لهم مع نفحات أيام كريمة وهم ينتصرون للحياة فى مصانعهم وحقولهم وشوارعهم وأسواقهم.