من الكتب التى تستحق القراءة كتاب "الوحى والقرآن والنبوة" لـ هشام جعيط، والصادر عن دار الطليعة.
ويقول هشام جعيط فى مقدمة الكتاب، هذا الكتاب جزء من مشروع قديم طويل النفس، لكن حفزنى على التفكير فيه ناشر فرنسى، وشجعنى على البحث فى موضوع "السيرة" اهتمام طلبتى بدروسى حوله فى جامعة تونس، فتمكنت منه بعد عشر سنوات من الجهد مع بقاء القليل من الثغرات، لكننى كنت دائماً متلكئاً عن كتابة بيوجرافيا لن تزيد شيئاً على ما هو محرّر بلغات متعدّدة، ولرتابة الكتابة السردية غير النقدية. وهكذا انتابنى التردد لعقد من الزمن. ولعل الذى أنقذ المشروع هو اعتمادى المقتصر على القرآن كمصدر كما على التاريخ المقارن للأديان، والانفتاح على أفق الثقافة التاريخية والأنثروبولوجية والفلسفية. ولذا اتجهت أكثر فأكثر إلى تصور أغراض معيّنة لا بد من التعمق فيها: الوحى والنبوة، معانى القرآن، تاريخية النبوة والنبى التى ستأتى فى الآخر لوضعه فى الإطار الواقعى من دون إعطاء هذا الواقع قيمة خاصة، بل هو أدنى من الحقيقة الدينية المحضة التى لا يمكن مقاربتها إلا بحس رهيف وعقلانية تفهمية ومعرفة دقيقة.
ولقد أكدت كثيراً فى هذا المشروع على الدقة وجزالة الخطاب، وابتعدت عن الأسلوب الوهاج المشوب دوماً بالضبابية. وحده القرآن جمع بين دقة التعبير والكلمة المثيرة والعمق الكوسمى والوضوح الكامل البينْ. وهذا من أهم خصائصه.
ولقد ترددت كثيراً بين الكتابة بالعربية أو بالفرنسية. فالعربية فقيرة جدّاً فى كل ما هو مصطلحات فى الفلسفة والعلوم الإنسانية التى انتشرت فى الغرب لكثرة استعمالها وكثرة استيعابها، فدخلت فى الحياة الفكرية
العامة، ولذا تجد دائماً صدى فى نفس القارئ حتى من المثقف المتوسط.
والخطاب يكون عادة موجهاً إلى من له ثقافة مسبقة فى حقل العلوم الإنسانية، وإلا بات مبهماً أو وَسمّ بأنه أجنبى وكأن ذلك وصمة عار.
لكن العرب والمسلمين يفهمون القرآن بعقلهم وأحاسيسهم، وليس هذا متوفرة فى الغرب، لا سيما وأن ترجمة القرآن فى دقة معانيه مستحيلة.
وللدراسات المحمدية صدى فى الضمير الإسلامى واهتمام بالغ، ولعل هناك حاجة إلى تجديد المسألة لا محبة فى التجديد، وإنما محبة فى التعمق فى المعرفة.
وبعد، فهذا الكتاب وما سيتبعه كتاب علمى وليس بالدراسة الفلسفية، ويعتبر بالتالى كمعطى ما هو لب الدين الإسلامي: الوحى، الإيمان، البعث. وسواء كان المؤرخ – المسلم وغير المسلم – مؤمناً أو خارجاً عن الإيمان، فمنهجه الصحيح هو هذا، أى اعتبار المعطى كمعطى ومحاولة تحليله لا أكثر.
وقد حاولت فى الماضى أن أفكر فلسفياً فى الوحى واعتبرته جدلاً بين أعماق الضمير المحمدى، وهو الإله الداخلى، وبين الإله الخارجى فيما وراء العالم.
وهنا ما أريد الإلحاح عليه أن النبى لعب دوراً استثنائياً فريداً فى بلورة الإسلام خلافاً لأغلب المؤسّسين، إذ إن الخط الأصلى القرآنى فى المعتقد والعبادات واضح آمر مفصل، لا يُمكن مسّه. وإذا كان طبيعياً أن يتطوّر الإسلام كغيره من الأديان باستمرار، فتكونت مدوّنة فى الفقه والحديث والكلام ثم التصوّف ثم الرجوع إلى الأصول، وإذا صح أن الإسلام الخليفى أحدث تصوّراً ما عندما تشعبت الحضارة بل أوغل الإسلام فى حضارات بعيدة عن جذوره، فإن الخط القرآنى بقى صلباً فيما هو أساسي.
فلو أخذنا، على سبيل المقارنة، المسيحية والزردشتية والبوذية، لوجدنا أنّ العطاء التاريخى – أى فى الواقع للمؤسّس خبا إلى حدّ كبير وراء الدين المتأسّس باستمرار. فكم من أفكار عجت بها المسيحية، وكم من مؤتمرات عُقدت لضبط المعتقد، وكم من هرطقات ظهرت فى القرون الأولى. والشيء نفسه بالنسبة للبوذية وتكرر المؤتمرات حولها وتغيير المعتقدات. أما دين زردشت، فقد حصلت فيه ردّة، فرجع الفرس إلى «الدّيغات»، الآلهة القديمة، وأعرضوا عن التوحيدية ثم أحدثوا مبدأ النار المطهرة و«إكليروساً» مهيكلاً. لكن المرجعيّة بقيت لزردشت مع إجلال كبير. وكذا بالنسبة للبوذا. أما المسيح الإنسان-الإله، فهو أكثر من مرجعيّة مجرّدة؛ إنه لب المسيحية تماماً. قد يبدو هذا نسياناً لتطور الإسلام وتشعبه إلى فرق وهرطقات، لها فى بعض الأحيان نظرة خاصة إلى القرآن وحتى كتب مقدّسة خاصة بها. وهذا طبيعي.
لكن لولا القرآن ولولا محمد وبناؤه للدولة الإسلامية وتشجيعه الضمنى على الفتوحات، وبالتالى بناء الامبراطورية ودخول السياسة وأهوائها فى اللعبة، لما وجدت هذه الأهواء والفرق. إنّما فى آخر المطاف، بصفة مباشرة أو غير مباشرة (الإمامية)، تبقى السيطرة للقرآن ولشخصية محمد.
وجدلية الدولة والدين لها أهمية قصوى فى المسيحية والإسلام. على أن لب الإسلام هو الدين، ولم يكن النبى يصبو إلى السياسة والتسلّط.
والوحى والقرآن والنبوّة هى أصل كل شيء، وبقيت العمود الفقرى للحضارة الإسلامية على طول الزمن التاريخي. والحقيقة أن الإسلام الأولى لم يزاحم إلا قليلاً المسيحية فى مجالها، بل هو نشر – بدون تبشير التوحيدية المحمدية فى رقاع كانت متخلفة دينياً كفارس وما وراء النهر وشمال الهند وأعماق المغرب، ثم فى لحظة ثانية متأخرة فى إفريقيا والعالم الماليزي، وهنا زاحم الهندوسية والبوذية.
والبوذية ذاتها انتشرت فى الصين واليابان وجنوب آسيا، لكنها لم ترتبط إلا قليلاً بالدولة العتيدة القائمة. فشهدت النجاح أحياناً والاهتزازات أحياناً أخرى. وقُضى أمرها تقريباً فى الصين بقرار من الإمبراطور، وكان هذا كافياً لتدميرها. وحصل الشيء نفسه فى فترة متأخرة باليابان.
إن الصيغة التأكيدية الحامية فى القرآن واعتباره ككتاب الله المنزل بكليته خلافاً للكتب الأخرى، والحفاظ عليه من الشوائب، وإصرار النبى فى حياته على حقيقة الوحي، إن كل هذا أعطى الإسلام قوة داخلية كبيرة.
كما أن احتواء القرآن على قانون وأخلاقية وحتى على تناقضات أكسبه تأثيراً عظيماً ومعنى مطلقاً. فالتناقضات موجودة فى كل الأديان الكبرى، وهى التى تجعلها تجيب على كل تساؤل وتتجه إلى كل الأفراد والجماعات بتعدد حاجاتهم ورؤاهم، ومع تناقض عقولهم وأهوائهم.
إنّ المسيحية والإسلام لعبا دوراً كبيراً فى المجتمعات الإنسانية وما زالا. لكن المؤمن الحق لا يهمه هذا الدور بقدر ما تهمه الحقيقة المستبطنة المحبوبة. والمؤرّخ يقف عند الظواهر والفينومينولوجيا، هنا بخصوص لحظة التأسيس، لأنها مصدر كل شيء أتى من بعد، وللصعوبات التى لاقتها، وهى أمر يكاد يكون حتمياً. النجاح حصل فى كلتا الحالتين بوسيلة الدولة. وأقصد بالنجاح الرسوخ الكلى فى مجتمعات ضخمة، لأن لكل من الدينين أتباعاً من الأول ووجاهة خاصة فى المحتوى، استقطبت للمسيحية أعداداً مهمّة من الاتباع، وحصل للإسلام أيضاً الشيء نفسه فى المدينة.
ولا أشك فى أن الإسلام حتى بدون خلق الدّولة كان مؤهلاً لاستيعاب الكثير من الناس.