يظل سؤال "كيف وجدت الآلهة" سؤالا متجددا، فمهما أجابت الأديان والفلسفات عنه، لا يكتف، بل يزداد طلبا لإجابات جديدة، لأنه سؤال مرتبط بالفطرة، أى أنه أساس من بدايات التفكير فى حياة كل إنسان.
يقول كتاب "كيف وجدت الآلهة؟" وهى دراسة قدمها "جون كيرتشر" فى عام 1929 وترجمها إبراهيم جركس "ﻣﺎ أن أﺻﺒﺢ اﻹﻧﺴﺎن واﻋﯿﺎ وﻣﺪرﻛﺎ ﻟﻮﺟﻮده، ﺳﺮﻋﺎن ﻣﺎ أﺻﺒﺢ ﻗﺎدراً ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻔﻜﯿﺮ، وﻛﺎن ﻣﻠﺰﻣﺎ ﺑﻄﺮح اﻟﺴﺆال ﻋﻠﻰ نفسه: ﻣﻦ أﯾﻦ أﺗﯿﺖ؟ وإﻟﻰ أﯾﻦ أمضى؟ وﻛﺎن ﻣﻦ الطبيعى ﺟﺪاً أن ﯾﺘﺴﺎءل ﻋﻦ ﻛﯿﻔﯿﺔ مجيئه إﻟﻰ اﻟﻌﺎﻟﻢ وظﮭﻮره ﻋﻠﻰ اﻷرض وﻣﺎذا سيصيبه ﺑﻌﺪ اﻟﻤﻮت، ﻛﺎن ﯾﺮى أصحابه ﯾﺴﺘﻐﺮﻗﻮن فى ﻧﻮم ﻋﻤﯿﻖ، ﻣﻦ دون أن ﯾﺴﺘﯿﻘﻈﻮا.
ﻛﺎن ﯾﺮى آﺧﺮون ﯾُﻘﺘَﻠﻮن، وﺗﺨﺒﻮ ﺣﯿﺎﺗﮭﻢ، وﺳﻌﻰ ﺟﺎھﺪاً ﻹﯾﺠﺎد ﺣﻠﻮل ﻟﮭﺬه اﻟﻤﺸﺎﻛﻞ التى ﺟﻌﻠﺖ اﻹﻧﺴﺎن البدائى ﯾﺒﺘﻜﺮ ﻣﻌﺘﻘﺪات وأﻓﻜﺎر ﺣﻮل اﻟﺤﯿﺎة ﺑﻌﺪ اﻟﻤﻮت وﺑﻜﺎﺋﻨﺎت ﺧﺎرﻗﺔ أﻗﻮى ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن. ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻌﻮد ﺑﺘﻔﻜﯿﺮﻧﺎ إﻟﻰ اﻟﻮراء، إﻟﻰ ﺧﺒﺮات وﺗﺠﺎرب اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﺸﺮى، التى ﺗﺸّﻜﻞ ﺗﺎرﯾﺦ اﻹﻧﺴﺎن، ﻧﻼﺣﻆ أّن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ ﺷّﻜﻞ ﺛﻼﺛﺔ طﺮق ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﺘﻔﺴﯿﺮ نشاطاته، ﺑﻤﻌﻨﻰ آﺧﺮ، ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ھﻨﺎك ﺳﻮى ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻔﺎھﯿﻢ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﺘﺎرﯾﺦ، ﺛﻼث ﺗﻔﺴﯿﺮات رﺋﯿﺴﯿﺔ ﻟﮭﺪف اﻹﻧﺴﺎن وغايته ﻋﻠﻰ ھﺬا اﻟﻜﻮﻛﺐ، ﺻﺤﯿﺢ أنه ﻗﺪ ﺗّﻢ وﺿﻊ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ ﺗﺴﻤﯿﺎت ﻟﮭﺬه اﻟﻤﻔﺎھﯿﻢ ﻟﻠﺘﺎرﯾﺦ، ﻟﻜﻨّﮭﺎ ﺟﻤﯿﻌﮭﺎ ﯾﻤﻜﻦ ﺟﻤﻌﮭﺎ فى اﻟﺘﺴﻤﯿﺎت اﻟﺜﻼث اﻟﺘﺎﻟﯿﺔ :أولا، اﻟﻤﻔﮭﻮم اﻟﻼھﻮﺗﻲ ﻟﻠﺘﺎرﯾﺦ، ﺛﺎﻧﯿﺎ، اﻟﻤﻔﮭﻮم المثالى ﻟﻠﺘﺎرﯾﺦ، ﺛﺎﻟﺜﺎ، اﻟﻤﻔﮭﻮم اﻟﻤﺎدى ﻟﻠﺘﺎرﯾﺦ.
المفهوم اللاهوتى
ﯾﻘﻮم اﻟﻤﻔﮭﻮم اللاهوتى ﻟﻠﺘﺎرﯾﺦ ﻋﻠﻰ أﺳﺎس اﻻﻋﺘﻘﺎد أن هناك ﻛﺎﺋﻦ غيبى أو ﻛﺎﺋﻨﺎت ﻏﯿﺒﯿﺔ ﺧﺎرﻗﺔ ﺗﺘﺠﺎوز اﻟﻌﺎﻟﻢ، ﺳﻮاء أﻛﺎﻧﺖ ﺧﯿّﺮة أو ﺷﺮﯾﺮة، وأّن ﺟﻤﯿﻊ أﻓﻌﺎل اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﺸﺮى وأﻋﻤﺎله ﻣﺎ هى إﻻ اﻧﻌﻜﺎﺳﺎت ﻹرادة هذه اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﻤﺎوراﺋﯿﺔ، ﻟﺬﻟﻚ، ﻓﺎﻟﺘﺎرﯾﺦ ﻣﺎهو إﻻ ﺳﺠّﻞ ﻟﻠﻤﺨﻄّﻂ الإلهى اﻟﻈﺎھﺮ ﻟﻸﺷﯿﺎء.
المفهوم المثالى
ھﺬه اﻟﻨﻈﺮة إﻟﻰ اﻟﺘﺎرﯾﺦ، ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻰ ﻧﻈﺮﯾﺔ اﻹرادة اﻟﺤﺮة، ﻓﺤﺴﺐ ھﺬه اﻟﻨﻈﺮة، اﻹﻧﺴﺎن ھﻮ ﻣﺨﻠﻮق ﺣّﺮ، ﻓﮭﻮ ﯾﻤﺘﻠﻚ اﻟﻘّﻮة واﻹرادة ﻟﻼﺧﺘﯿﺎر ﻓﯿﻤﺎ ﯾﺘﻌﻠّﻖ ﺑﺄﻓﻌﺎله وﺗﺼّﺮﻓﺎته، اﻟﻘﺪرة ﻋﻠﻰ اﻻﺧﺘﯿﺎر ﺑﯿﻦ "اﻟﺨﯿﺮ واﻟﺸﺮ"، ﻗﺪ ﯾﻤّﺪ له ﷲ ﯾﺪ اﻟﻤﺴﺎﻋﺪة، أو ﻗﺪ يعويه اﻟﺸﯿﻄﺎن، ﻟﻜّﻦ اﻟﺨﯿﺎر اﻟﻨﮭﺎئى ﯾﻜﻮن بيده وﺣﺪه وﻻ أﺣﺪ ﻏﯿﺮه، ھﺬه اﻹرادة اﻟﺤﺮة، ھﺬه اﻟﻘﺪرة ﻋﻠﻰ اﻻﺧﺘﯿﺎر ﺑﯿﻦ "اﻟﺨﯿﺮ واﻟﺸﺮ"، ﺿﺮورﯾﺔ ﺟﺪاً ﻟﺼﻨﻊ إﻧﺴﺎن "ﺧﻄّﺎء"، ﻓﺈذا ﻟﻢ ﯾﻜﻦ ﺑﻤﻘﺪور اﻹﻧﺴﺎن اﻻﺧﺘﯿﺎر فلا ﯾﻤﻜﻦ أن ﯾﻜﻮن "ﺧﻄّﺎًء"، ﻋﻨﺪھﺎ ﺳﺘﺼﻞ ﻋﻤﻠﯿﺔ إﻧﻘﺎذ اﻷرواح إﻟﻰ ﻧﮭﺎﯾﺔ ﻣﺴﺪودة، فاﻟﻤﻔﮭﻮم اﻟﻤﺜﺎﻟﻲ ﻟﻠﺘﺎرﯾﺦ ﻗﺎﺋﻢ ﻋﻠﻰ أﺳﺎس ﻓﻜﺮة ﺑﺸﺮﯾﺔ.
المفهوم المادى للتاريخ
هذه الرؤية تنطلق من أن كافة اﻷﻓﻜﺎر اﻹﻧﺴﺎﻧﯿﺔ تنبع ﻣﻦ اﻟﺒﯿﺌﺔ اﻟﻤﺎدﯾﺔ اﻟﺘﻲ يعيش فيها الإنسان.
من أين تأتى الأفكار الدينية؟
نسأل الدراسة: ﻣﻦ أﯾﻦ تأتى ھﺬه اﻷﻓﻜﺎر؟ ھﻞ هى ﻣﺘﺄّﺻﻠﺔ داﺧﻞ دﻣﺎغ اﻟﻄﻔﻞ ﻣﻨﺬ ﻟﺤﻈﺔ اﻟﻮﻻدة؟ وتجيب: طﺒﻌﺎ: ﻛﻼ إن اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺪﯾﻨﯿﺔ ﻣﻜﺘﺴﺒﺔ، إﻧّﮭﺎ ﻧﺘﯿﺠﺔ ﺗﺮﺑﯿﺘﻨﺎ وﻣﻤﺎرﺳﺘﻨﺎ، ﻓﺈذا ﻛﻨﺎ ﻗﺪ وﻟﺪﻧﺎ ﺿﻤﻦ ﻗﺒﯿﻠﺔ ﺑﺪاﺋﯿﺔ ﻓﺴﻨﻜﻮن ﻗﺪ ﺗﺮﺑّﯿﻨﺎ ﻋﻦ "ﺗﺎﺑﻮھﺎت "ﻣﻌﯿّﻨﺔ، وﺑﺎﻧﺘﮭﺎك ﺗﻠﻚ اﻟﺘﺎﺑﻮھﺎت ﺳﻨﻜﻮن ﻗﺪ ﺟﻠﺒﻨﺎ ﻏﻀﺐ اﻷرواح اﻟﺸﺮﯾﺮة ﻋﻠﻰ أﻧﻔﺴﻨﺎ وأﻟﺤﻘﻨﺎ اﻟﻀﺮر واﻷذى ﺑﺎﻟﻘﺒﯿﻠﺔ، ﻣﺜﻞ ھﺬه اﻟﺒﯿﺌﺔ ﻻ ﯾﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﺘﺞ أﯾّﺔ ﻣﻌﺘﻘﺪات وأﻓﻜﺎر أﺧﺮى.
اﻟﺪﯾﻦ ﻣﺠّﺮد ﺗﻄّﻮر طبيعى، وھﺬه ھﻲ اﻟﺤﺎل ﻓﻲ أﻛﺜﺮ أﺷﻜﺎله ﺑﺪائية، إنه ﻣﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ ﻛﺎﻓﺔ اﻟﺪواﻓﻊ اﻟﻄﺒﯿﻌﯿﺔ ﻟﻠﺒﺸﺮ.
الرغبة فى الحياة
تقول الدراسة، ﻻ ﯾﻮﺟﺪ ﺷﺨﺺ ﻋﻠﻰ وجه اﻷرض ﯾﺮﻏﺐ ﺑﺄن ﯾﻤﻮت، ﻛﻞ ﺷﺨﺺ ﯾﺮﯾﺪ أن ﯾﻌﯿﺶ، وﺣﺘﻰ اﻟﻨﺎس اﻟﻤﺘﺪﯾّﻨﻮن، أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﯾﻦ ﯾﺘﻐﻨّﻮن ﻟﯿﻞ ﻧﮭﺎر ﺑﺄﻣﺠﺎد اﻟﺴﻤﺎء وﺟﻤﺎل اﻟﺠﻨﺎن وﻣﺘﻌﮭﺎ واﻟﺤﯿﺎة اﻷﺑﺪﯾﺔ، ﻻ ﯾﺮﻏﺒﻮن ﺑﺎﻟﻤﻮت أﯾﻀﺎ، وﻋﻨﺪﻣﺎ ﯾﻤﺮﺿﻮن ﻓﻘﺪ ﯾﻠﺠﺄون إﻟﻰ اﻟﺼﻠﻮات، ﻟﻜﻨﮭﻢ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺑّﺪ ﯾﺬھﺒﻮن إﻟﻰ اﻟﻄﺒﯿﺐ إﻧّﮭﻢ ﻻ ﯾﺮﯾﺪون اﻟﻤﻮت، ﺑﻞ إﻧّﮭﻢ ﯾﻔّﻀﻠﻮن اﻟﺒﻘﺎء ﻓﻲ ھﺬا "اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺘﻌﯿﺲ واﻵﺛﻢ" ﻗﺪر اﻹﻣﻜﺎن.