منذ سنوات قليلة شملنى اندهاش كبير بعد الانتهاء من قراءة ترجمة "أصداء السيرة الذاتية" للراحل الكبير نجيب محفوظ بتقديم الكاتبة الجنوب أفريقية الكبير نادين جورديمر وترجمة المترجم الكبير دينيس جونسون ديفيز، وظننت أن الرجل قد أخرج فيها عصارة تجربته الحياتية ورؤاه الفلسفية لعُمر مديد عايشه طولا وعرضاً متأملا فى وجوه البشر ودواعى الحياة وهى الطريقة التى طالما لاحظها كل من قرأ نصوصه سواء كان متلقيا عاديا أم متخصصاً، أو كان كاتبا عالميا تأثر بمحفوظ مثل نادين جورديمر التى ناصرت الزعيم الزنجي نيلسون منديلا إبان سجنه.
كتبت جورديمر مقدمة للسيرة الذاتية لنجيب محفوظ لاعتبارات عدّة أهمها حصولهما (نجيب محفوظ1988ونادين جورديمر1991 ) على نوبل العالمية فى الأدب، ثانياً لكون جورديمر امرأة كاتبة من العالم الثالث حصلت على نوبل نتيجة لشرف مواقفها العامة وانحيازها لمناصرة قضية التفرقة العنصرية، وثالثا أنها امرأة كاتبة تقدم كاتبا، ورابعا لأن أصداء السيرة الذاتية لمحفوظ قد تشابهت فى غايتها مع غاية جورديمر فى الكتابة ، حيث كلاهما يكتب عن البشر والبشر غاية فى التعقيد والتناقض والغموض ، وثمة سر إنسانى يحاول كل منهما أن يكتشفه، و الكتابة غاية لكل منهما للوصول إلى السر الكامن فى الحياة. آخر ما قدم لنجيب محفوظ ترجمة لنصوص قصصية تحت عنوان"السماء السابعة" صدرت عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية، واخر ما صدر لنادين جورديمر كتاب تحت عنوان "لنحكى حكاية "يضم قصصاً مشتركة مع مجموعة من الكتاب العالميين ممن حصلوا على نوبل أمثال ماركيز وجونترجراس واتشيبى ووولى سونيكا أو غير الحاصلين على نوبل أمثال سوزان سونتاج وقد ترجم إلى خمسة عشر لغة.
وذكرت نادين جورديمر فى مقدمة أصداء السيرة الذاتية أنها لم تلتق بمحفوظ أبدأ لكن ذلك حدث بعد صدور المقدمة بسنوات قليلة إذ التقيا فى بيت محفوظ إبان إقامة معرض القاهرة الدولى للكتاب بالقاهرة 2005 حيث كانت جورديمر ضيفة المعرض . ولأن عالمية الكتابة نجيب محفوظ لم تنشأ من فراغ فقد وصفت نادين جورديمر في مقدمة الطبعة الإنجليزية لترجمة أصداء السيرة الذاتية أسلوبه قائلة:"مهما يكن تأويلك الشخصي فإنه من المستحيل قراءة هذه السيرة الذاتية دون الإحساس بلذة هائلة وامتنان عظيم لنوع من الكتابة يأتى عبر المفارقة التاريخية الغريبة عند التأصيل لمعنى الوجود. عندما تكون الوقائع مصّدق بها مأخوذة من عبق المكان.
أستطيع أن أردد بتمهل محفوظ يمتلك حكمة كبيرة و يقف أمامنا محافظا على لغز الحياة .. إن محفوظ هو الزعبلاوى نفسه" الذى يمتلك ذاكرة متخمة مثل(شخص عملاق ذى معدة تتسع لكميات كبيرة وفم يستطيع أن يبتلع فيلاً) .. فتخيلت أننى أسأله بذهول، من أنت يا سيدى؟ فيجيب محفوظ فجأة "أنا النسيان". كيف يمكن أن تنسى؟. عامة كان محفوظ مدركاً لأحداث الماضى وخبرة تجربة الحاضر. تلك القطع الأدبية فى أصداء السيرة الذاتية ما هى إلا تأملات تمثل رجع الصدى لخبرات الحياة التي عايشها الكاتب محفوظ آنذاك؟.
ثم يقدم محفوظ لقارئه نصوصَ"أحلام فترة النقاهة" و قد عزّ عليه أن تفارقنا الدهشة وإعمال العقل واستغراق التفكير والتأمل فى نوع تلك الكتابة، أهى قصص قصيرة مُقنّعة فى زى السرد؟ أم هى نصوص مشاهد فلسفية لنص كبير أفقده صاحبه الترابط كى يوقعنا جميعا فى شرك الاستغراق فى التفكير؟.
بدأ الراحل الكبير نجيب محفوظ فى نشر رؤاه التى أطلق عليها "أحلام فترة النقاهة" منذ عام 1990، ثم بعد محاولة الاغتيال الدنيئة التى تعرض لها فى عام 1994 وبعد مرحلة العلاج الطبيعى الطويلة التى خاضها كثّف محفوظ كتابة الأحلام ، حتى صدرت طبعتها العربية مُزيّدة حينما وصلت الأحلام الى مائتى حلم (الى جانب ستة أحلام منفصلة أطلق عليها أحلام عيد الميلاد). التى اعتبرها ريموند ستوك مترجم ومقدم الإصدار الإنجليزي "شذرات جميلة أسرت الروح وعبرت عن مزاج محفوظ فى المراحل المختلفة من حياته منذ الطفولة مروراً بالشباب وانتهاء بالشيخوخة".
يظهر في "أحلام فترة النقاهة" أن أثر كُتَّاب السيرة الذاتية يمتد إلى تدوين تاريخ الحياة منذ ظروف الميلاد الأولى مروراً بجمال الصِبا حتى التوارى فى الثرى. كيف يُنتج الكاتب ذلك المدى الزمنى الذى يكون موجوداً بالفعل وينتقل فيه بحرية بين الزمان والمكان بفعل الشخصيات، ظهر ذلك خلال الأقوال المأثورة ، والأمثال، والحكايات فى نصوص الأحلام التي لم تُذيّل بتاريخ ، لذا لم تكن محسوبة تاريخياً عندما كتبها. دُوَّنَت منذ زمن بعيد حيث كان الذهن الإبداعى لمحفوظ متسعاً متيقظاً، لذلك تظهر الأحلام كأنها ومضة من التعمق فى جميع معتقداته ، فقط كى يقوم المتلقى بإعمال عقله فى مغزى الأحلام ولا يقدمها مُعنونة لا شية فيها كى يُسلّم بها المتلقي كما هى، على الرغم من تراوحها عند الحالم بين استخدام ضمير المتكلم المفرد، أو ضمير (نا الفاعلين) الذى استُخدم فى عدد من الأحلام دلالة على الجماعة الاجتماعية التى تتشارك فى عمل واحد، وأخيرا الحلم الوصفى الذى يقدمه حالم فوقى دون التورط فى أحداثه كدلالة عامة على واقع مكتمل بدلا من كونه حلم خاص دال على حالم متكلم دلالة على نفسه.
