كثُرت مطالبات المثقفين بتجديد الخطاب الدينى وهذا مطلوب لا محالة؛ لكنهم لم يلتفتوا إلى تجديد الخطاب الثقافى وهو الأهم لأنه يمس العقل ويعمل به، فإذا نضب العقل تلقفه من يعقلنه وفق أجندته السياسية والدينية وصار الفاقد مفقودا؛ وهنالك مَثلٌ ألمانى "الكوب يكتسب لونَ المشروب"، فعقول شبابنا ستُمْلأُ بما يُصَبُ فيها؛ وإذا كانت آلة الثقاف قديما نثقف بها فروع الأشجار فيغدو الفرع رمحا مستويا لا ميل فيه ولا اعوجاج فإن التفكير المثقف هو من يهذّب رؤاه وأفكاره فتصير مثقفة أى لا ميل فيها ولا اضطراب وهنا تكمن العلاقة بين آلة الثِّقاف والمثقف.
اتجه المثقف إلى الإغراب والمغايرة فَفَقَد الشعرة أحيانا بينه والنَّاس، فصار بعض المثقفين لا يمثلون مجتمعاتهم ولا يعبرون عنها بل تقوقعوا وراء أُطر نظرية مستغلقة أو صار المثقف يتحدث نيابة عن جماعة لا تمجد العقل ولا تلتمس التنوير منهجا ناهيك عن مجموعة لم تتخذ من الحيدة طريقا؛ وآفةُ الرأى الهوى.
من هنا فإن تجديد الخطاب الثقافى الذى دعوتُ إليه قبل عام ؛ وتَنَدّر عليه جماعة من الناس آنذاك، لكنهم يتاجرون به الآن، آمل ان يجد فيه المثقف والجمهور ضالتهم لأن هذا التجدد سيجعل المثقف يطرح السؤال القديم عن مدى تأثيره فى المجتمع، وهل للمثقف دور فى قيادة المجتمع أو أن المجتمع هو الذى يقوده ويفرض عليه رؤاه.
إن المتأمل فى الخطاب الثقافى الحالى يجد أن دعاة العلمانية يكررون أقوال الروّاد التى مضى عليها ما يقرب من قرن وفى حاجة إلى تجدد، وصار الخطاب المضاد للعلمانية أكثر تقبلا من جمهور عريض لم يستسغ المصطلح لشدة ما أصابه من ضربات قاتلة من دعاة تغييب العقل الذين وجدوا فى الأمية الأبجدية والأمية الثقافية ضالتهم فوظفوا هاتين الأميتين لمصلحتهم فرأينا منذ النصف الأول من القرن الماضى تطويع النصوص المقدسة فى تفسيرات تجافى حقيقة الأديان السماوية التى تدعو إلى التسامح والوسطية، فأفقدوا النص جوهر رسالته ووجدوا فى الشباب وقود أفكارهم فى ظل ضعف المؤسسات الثقافية والتعليمية وبُعدهاعن أداء دورها المنتظَر، ومن هنا ظهر التطرّف والتفجير والتكفير.
لو كان الخطاب الثقافى متجددا لتلقَّفَه الناس ليَلْقَفَ ما أفك المتاجرون بالأديان والشعوب ولما قاد الشارعُ المثقفَ.
لقد تناسى بعض المثقفين المقولة البلاغية الأولى " لكل مقام مقال" فصاروا يتعالون على المتلقى الذى صار حاله كمن اختل توازنه فسقط فى بئر فاعتاد النداء علَّ أن يسمعه المبدع الذى اكتفى بالنظر إليه من علٍ وتوبيخه واحتقاره فى أحايين كثيرة أو الضحك عليه.
قد يحلم المثقفون وهذا حقهم؛ وقد يصاب بعضهم بالإحباط وهو نتيجة صاحبت بعضهم منذ أبى حيّان التوحيدى الذى أحرق - كما نُقِلَ- معظمَ كتبه، وقد يعتزل الناس كما صنع أبوالعلاء المعري؛ لكنه يقول الحقيقة ليصير كزرقاء اليمامة التى ترى ما لا يراه أبناء شعبها.
يجب أن نستمع إلى خطاب الشباب الذين جعلناهم مستقبِلين لا مبدعين كما ينبغى أن نجدد آليات توصيل الخطاب الثقافى وطرق أدائه، وإلا فالبساط يُسحب من تحت أقدامنا.
شقَّ بعض الشباب طريقهم نحو المدوَّنات التى صارت بفضلهم جنسا أدبيا جديدا وراحوا يتناوبون الكتابة التفاعلية التى وجدت جمهورا لا ينافس الكبار فحسب بل يسحب جمهورهم ويكتسب جمهورا جديدا لم يكن للآباء فيه أى دور.
إن تحليل مضمون خطابنا الثقافى الذى أراه مشتتا ضبابيا لا يصل إلى مستوى المرحلة الراهنة التى تتآكل فيها البلدان من حولنا وتتلاشى جيوش كانت ملء السمع والبصر.
لقد تحول بعض المثقفين إلى تجمعات متصارعة ومتنازعة حول مكاسب وقتية ومعارك مفتعلة وتصفيات حسابات ونسوا دورهم الرائد، فلم يعد لهم مهابة فى نفوس العامة والخاصة، وصار مكسب بعضهم بجائزة أو منحة تفرغ أو نشر كتاب أو "سفرية" تلهيه عن النطر إلى دوْرره الأهم، فيتغاضى عن القيم والمُثل ورسالة الفنون فى إرساء الحق والخير والجمال، تجديد الخطاب الثقافى الآن ضرورة ومهمة عاجلة، فالمثقف هو الرائد الذى لا يكذب أهله