استطاع الكاتب الفرنسى جوستاف فلوبير (1821- 1880) أن يحقق نجاحًا كبيرًا بروايته (مدام بوفارى) 1856، التى أثارت ضجة عند نشرها، دفعت كاتبها للمحاكمة بتهمة إفساد الأخلاق والقيم العامة.
وتدور أحداث الرواية حول الفتاة إيما بوفارى، وهى فتاة جميلة ومثقفة عاشت على قراءة القصص والروايات ونسجت أحلامها من أبطال الروايات التى كانت تقرأها، حلمت بالحياة الفارهة والعيش فى القصور لما فيها من سهرات وحفلات وبذخ.
كانت إيما تدرس فى الكنيسة ولكنها زهدت الحياة هناك، فانتقلت للعيش مع أبيها فى الريف وهناك التقت الطبيب شارل بوفارى وهو الرجل الذى تزوجته وأخذت منه لقبه، كان الطبيب يترد على والدها القس لمعالجته وهناك رأى الفتاة الجميلة فأسره حبها وتقدم للزواج منها.
وتبدأ الرواية، لمن لم يقرأها، بدخول الفتى شارل بوفاري، إلى مدرسته، روان الداخلية، وهو فى سن أكبر من طلبة صفه، ويقود منظره الريفى وكبر سنه المعلم والطلبة للاستهزاء به. ثم ينقل إلى دراسة الطب، ويتخرج بعد عثرات، ويفتتح عيادة فى (توست) وتزوجه أمه من أرملة ثرية متقدمة فى السن ومريضة فى الخامسة والأربعين من عمرها.
يستدعى شارل لعلاج قسيس فى بروتو، كسرت ساقه وكان ثريا، وهناك يرى ابنة القسيس (إيما)، والتى قادته إلى حيث يرقد والدها. وقد بدت أنها تكره الريف والعيش فيه، وكانت تلقت دراسة فى رعاية راهبات الأورسلين حيث تعلمت دروساً فى الرقص والرسم وعزف البيانو والجغرافيا.
تموت زوجة شارل الأولى، فيطلب يد إيما من الأب روو والذى كان يود أن يكون صهره أكثر غنى من شارل، وبعد استشارة الأب لابنته توافق ويوافق الأب كذلك. ويتزوج شارك وإيما فى عرس باذخ ثم يعودان إلى توست، وقد بدت عقدة إيما النفسية، التى ربما نشأت من اعتقادها بأنها قبل الزواج قد دفعت إلى الحب لكنها لم تحصل على السعادة المترتبة على حبها، حتى أنها توهمت أنها على خطأ، فتساءلت: ماذا تعنى عبارات النشوة والعاطفة والهيام التى قرأت عنها فى الكتب!
وبدلا من أن تنصرف إلى العناية بالزوج والبيت، صارت تسترجع ذكرياتها فى سنين طفولتها 13 سنة. عندما دخلت الدير وأقبلت على العبادة والإجابة عن الأسئلة الدينية الصعبة لكن مع اقترابها من السادسة عشرة فقد حدث انقلاب فى نظرتها إلى الأشياء، فنفرت من المناظر الريفية الهادئة، واتجهت إلى نقيضها – المثيرة – وصارت تبحث عن العاطفة أكثر من بحثها عن المنظر ! وصارت تعجب بأبطال وبطلات الكتاب الكلاسيكيين ولاحظت الراهبات أنها أخذت تفلت من رعايتهن، بعد أن كن قد بالغن فى مواعظهن لها وأسرفن فى تلقينها الاحترام للقديسيين، وفى ازجاء النصح فى اخضاع الجسد ولم تأسف الراهبات على خروجها من الدير عندما جاء أبوها وأخرجها منه.
وتجد إيما لذة عند عودتها إلى مزرعة أبيها، فى إصدار الأوامر للخدم، ولكنها حنت إلى الدير ثانية، وحتى وهى فى أيام شهر العسل الأولى كانت تتمنى أن تكون تلك الأيام فى أماكن أخرى مثل اسكتلندا أو سويسرا، ومع رجل من النبلاء لا مع شارل! ورغم قبولها بالزواج به، تتمنى لو التقت مرة واحدة نظراته بخواطرها ورؤاها.
فالأمور بينهما كانت تسير على النقيض، حيث كلما ازدادت الألفة بينهما ازداد شعورها بالانطواء الروحى وزادت الهوة بينهما. إذ ترى أن حديثه سطحى ولا يعرف المسرح أو الموسيقا ولا يعرف شيئاً، ولا يطمع فى شيء.
ورأت إيما أن زواجها من شارل لم يتح لها تحقيق ما تتطلع إليه من آمال لأن حياته تسير على نمط واحد، دون إثارة أو تغيير. كما أنها لم تجد أنها حرة فى مصروف البيت، إذ اتهمتها حماتها بأنها – إيما – ميالة إلى تبذير دخل ابنها. حاولت إيما أن تقنع شارل بأنها تحبه، فكانت تغنى له بعض الأناشيد العاطفية التى حفظتها، لكن انفعاله لم يختلف قبل الانشاد أو بعده ! كان يقبلها فى مواعيد محددة، وكأنه يمارس عادة من العادات ! ويصل بها الانفعال إلى أن تقول يا إلهى لماذا تزوجت ! ولعل دعوة شارل وإيما إلى فوبيسار لزيارة مركيز أورفيليه، والذى أجرى له شارل عملية صغيرة كانت ذات أثر كبير فى تلبية رغبة إيما إلى توقها لرؤية ما هو جديد وعظيم ! وبخاصة فى هذا القصر الفاخر، الذى رأت فيه ما يروقها من البذخ سواء بالأثاث الفاخر أو الوجوه المترفة أو فى المائدة العامرة، التى عرفت فيها للمرة الأولى أصنافاً من الطعام والفاكهة. وأسعدها أن استقبلها الماركيز وزوجته، ورقصت خلال الحفلة مع (الفايكونت).
وقد ظلت تؤرخ لذكرى الحفلة بانقضاء الأسابيع التى تلتها. بدأت جذوة الحب تخمد من جانب إيما لزوجها، وصارت تتوق إلى الأجواء المخملية، حلمّا منها بأن تكون واحدة من بنات تلك الطبقة. كانت إيما من النوع الذى يزهو فى الحصول على الأشياء القريبة وتطمح إلى ما بعدها. كانت تبحث عن عالم اللذات والانفعالات العنيفة، وتتمنى الحصول على الشيء وضده! بينما كان شارل ماضيا فى خدمة مرضاه والارتحال يوميا لزيارتهم. لذا ملت إيما الحياة الرتيبة فى روان، ومرضت، وعندما أخذها إلى طبيب آخر نصحه أن يغير مكان إقامته وبالفعل رحلت الأسرة إلى مكان آخر (أيونفيل) وإيما حامل بابنتها.
وصل شارل وإيما إلى القرية الصغيرة واستقبلهما فيها الصيدلى هوميه وأقام احتفالاً لهما فى الفندق الوحيد (الأسد الذهبي)، وأعدت لهم حفلة عشاء، وعلى مائدة العشاء جلس أربعة أشخاص، شارل، إيما والداعى هوميه، وفتى من المدينة شاب جميل يعمل كاتبا عند كاتب العدل أعزب يدرس القانون فى باريس. هو (ليون)، الذى وافق على رأى إيما عندما طرحت مسألة السأم التى يصاب بها الإنسان نتيجة وجوده فى مكان واحد. والذى أعجبه قبل ذلك جمالها ومظهرها الأنيق وعندما انشغل شارل وهوميه بتناول الطعام، بدأ ليون يتبادل الأحاديث العامة مع إيما، التى بدا لها أنه شغوف بالخيال ويحب المناظر الطبيعية، وبخاصة تلك التى حدثه عنها ابن عمه الذى سافر إلى سويسرا، ووجد كل من إيما وليون أشياء مشتركة بينهما على مدى ساعتين من الحديث أثناء العشاء!