ماذا تبقى لنا كى نكتبه فى صلاح عبد الصبور ومسرحه وتحديدا مسرحية "مسافر ليل" ؟!!.. فصلاح عبد الصبور ليس مجرد كاتب مسرحى كبير وإنما يعتبر مرحلة بذاتها فى تاريخنا الأدبى المعاصر، ومسرحية "مسافر ليل" تُعَد من أنضج ما كتب صلاح عبد الصبور مسرحيا، وتم تقديمها بعدد لا حصر له سواء على خشبات المسرح المصرى أو العربى، ففى هذا النص تجلت عبقرية صلاح عبد الصبور المسرحية فى تطويع الشعر لمتطلبات الدراما المسرحية مستفيدا من كل المدارس المسرحية والفلسفية الحديثة فنجده يستخدم الواقعية والتعبيرية الرمزية والسريالية والتجريدية والتكعيبية ويدمجهم بنسب موزونة وبحساسية واعية تمتاز بالتكثيف والاختزال لتنصهر هذه المدارس فى سياق عام عبثى له طابع خاص به، طابع بنيوى على خلاف العبثية الغربية التى تميل إلى التفكيكية.
فالبناء الخارجى للمسرحية بدأ بالطابع الواقعى فى إطار بين الكوميدى والميلودراما حيث نرى الراكب المسافر (تحديد للشخصيات)، داخل قطار (تحديد المكان)، ويسافر ليلا (تحديد الزمان)، يبدأ فى حالة ملل (مقدمة)، ثم يتداخل فى الحدث مفتش التذاكر ويبدأ فى قهر الراكب حتى تنتهى الأحداث بقتل الراكب (خلق صراع له بداية ووسط ونهاية).
لكن يخرج النص من واقعيته من خلال تعدد شخصيات المفتش (تعدد أسمائه وتعدد ستراته وتعدد شخصياته) من الإسكندر إلى زهوان إلى علوان إلى عشرى السترة على مدار المسرحية كمن يغير جلده فى كل مشهد مما يؤدى إلى تفتيت شخصية المفتش وهو تفتيت فنى يؤدى إلى بنائية على مستوى الفكرة والموضوع فكل الشخصيات التى يتحول إليها المفتش هى شخصيات متصلة مترابطة موضوعيا وتعتبر امتدادا لبعضها البعض مما يؤدى إلى بناء معنى معين مشترك بينها هو معنى القهر والتسلط والسلب والديكتاتورية التى تمارسه السلطة بأشكالها وأنواعها المختلفة (السياسية والإجتماعية والدينية) مما أخرج النص من حيز الواقعية إلى نطاقات التعبيرية الرمزية.
ويخرج النص أيضا من إطار الواقعية من خلال جمله الحوارية التى تتسم بالسريالية أحيانا وبالرمزية أحيانا وبالتجريد أحيانا أخرى فى سياق عام عبثى موضوعيا،، «ألذ طعام للإنسان هو الأوراق وأشهى ما فى الأوراق هو التاريخ، نأكله كل زمان وزمان، ثم نعيد كتابته فى أوراق أخرى كى نأكلها فيما بعد».
وحين نمد الأحداث والشخصيات على استقامتها نجد ملمحا تكعيبيا ضمنيا ففى النهاية يقوم المفتش بقتل الراكب ويعود إلى مكانه الذى بدأ المسرحية منه ويظهر راكب جديد فى إشارة إلى تكرار المأساة بشكل مستمر ولا نهائى وكذلك التدرج فى تعدد الشخصيات والسترات والأسماء التى يتشكل فيها المفتش قابل للامتداد والإضافة والإسقاط على الواقع بشكل لا نهائى، فدائرية الحدث العام للمسرحية وقابلية تعدد شخصيات المفتش للامتداد فى التاريخ وفى الواقع الحالى والمستقبلى يلقى بظلال التكعيبية على النص.
ويظهر الإطار العبثى من خلال الأحداث والحوار المسرحى تغير سترات وشخصيات المفتش كل مشهد لكنه بنفس الوجه وإقناع الراكب بأنه شخص جديد، وأكل المفتش لتذكرة الراكب، ثم إيهامه ببياض بيانات بطاقته الشخصية، ثم محاكمة الراكب على تهمة قتل الله وسرقة بطاقته الشخصية، ومحاولة إقناعه بأن قتله ما هو إلا تنفيذ للعدالة، إلى أن يصل به إلى حد اتهامه وإخباره عن رغبته فى قتله تنفيذاً للعدالة، واصفاً إياه بـ«أنبل إنسان» ليكشف له قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أنه قتله دون سبب حقيقى، ثم يقتله بالفعل واستسلام الراكب لهذه الفكرة دون ادنى مقاومة هى أحداث مبنية على عكس المنطق الطبيعى وانما يحكمها الطابع العبثى فى بنائها.
تداخل ومزج هذه المدارس خلق شبكة ثرية من الدلالات الفنية التعبيرية توازت مع اللغة الشعرية المستخدمة فى النص بما بها من صور تعبيرية، وهذا التمازج أعطى طاقة دلالية تصويرية بالغة القوة للنص المسرحى فنقلته إلى نطاقات ما بعد اللغة إلى نطاقات تكثيف شديد للحالة المسرحية، فنص مسافر ليل ليس قصيدة شعرية متعددة الأصوات وانما هو نص يستخدم اللغة الشعرية ليجسد ويشخص حالة مسرحية متكاملة وملتزمة بمعايير المسرحة فى كل حدث وكل جملة حوارية بها. بل من مجرد إسم المسرحية "مسافر ليل" واسم المسرحية هو النافذة الأولى التى يطل منها المتلقى على فضاءات النص المسرحى، فكلمة "مسافر" اسم نكرة مما يوحى بعموميته فلا أبعاد محددة له فهو نموذج للإنسان العام بدون تحديد لهويته فينسحب المعنى فى النص على عموم الانسان فنحن امام قضية انسانية عامة ليست مرتبطة بمكان أو زمان محدد، وكلمة "ليل" هى ظرف زمان نكرة ايضا فيوحى بتكرار ماحدث فى المسرحية كل ليل، والمعروف أن الليل هو زمن التآمر، هذه لغة صلاح عبد الصبور المكثفة والدالة بوضوح وبساطة وثراء فنى.
تتعدد مستويات التفسير والدلالات الفنية فى العرض بداية من المستوى النفسى الأشبه بالحلم أو بالأحرى الكابوس الذى يعيشه الراكب منذ لحظة دخول المفتش فى الاحداث مرورا بمستوى بالإسقاط السياسى على النظم الحاكمة وما تمارسه من قهر واستلاب وتسلط على شعوبها فى العالم العربى ووصولا إلى أزمة الإنسان المجرد فى عبثية وجوده فى العالم فى ظل قيم عالمية حاكمة تسعى للسيطرة النفعية على مقدرات الشعوب. فتعدد مستويات التفسير يلقى ظلالا وانعكاسات مختلفة ومتنوعة وثرية للشفرات الدلالية بالنص فيجعل منه نصا مفتوحا للتأويل المستمر لذا فهذا النص مازال يحتفظ بقدرته على إعادة طرحه فنيا برؤى جديدة.
وأكتفى بهذا القدر من الغوص فى النص المسرحى كمقدمة للدخول فى عالم العرض المسرحى - ديودراما – "مسافر ليل"، الذى قدمته فرقة "Error 404" ضمن فعاليات مهرجان مفيولا للمونودراما والديو دراما لفرق الهواة على مسرح رومانس الذى أُقيم فى الفترة من 27 إلى 29 يناير 2020 – من إعداد وإخراج : كريم الجندى، وبطولة : كريم حامد (الراكب) ومحمود فيكس (مفتش التذاكر).
يحكى العرض المسرحى عن راكب قطار يحاول كسر الملل بذكر بعض الأسماء التاريخية للحكام الطغاة مثل هانيبال وتيمور لينك وهتلر وليندون جونسون والحجاج والاسكندر الاكبر فيظهر له الاسكندر الاكبر الذى يرهب الراكب فيبدأ الراكب فى تملقه والتذلل له كى يتقى شره ثم نكتشف أن الاسكندر هو نفسه مفتش القطار الذى يطلب منه تذكرة سفره فيعطيها الراكب له فيبتلعها فى بطنه ثم يطلب منه مرة اخرى تذكرته فيرتبك الراكب ولا يستطيع فعل شىء سوى زيادة تملقه للمفتش الذى يطلب منه بطاقته الشخصية وبعد تردد يعطيها له فإذا به يخفيها ويستبدلها ببطاقة بيضاء خالية من البيانات ويتحول المفتش إلى شخصية عشرى السترة الذى ينكر وجود الراكب بناء على عدم وجود بيانات فى البطاقة، وفى كل مرة يتحول فيها إلى شخصية جديدة يفقد الراكب شيئا ما، فيأكل تذكرته مرة، وبطاقته مرة، بمعنى أنه يطمس وجوده تماما لأن البطاقة هى الوثيقة الرسمية التى تجعل السلطة تعترف به، فيبدأ فى مساومته والتلاعب به فيطلب منه وصف عدله ورحمته فيستسلم الراكب له ويبدأ فى التضرع والتذلل له ومدحه وتقديسه فيبدأ عشرى السترة فى ابلاغه انه يبحث عن قاتل قتل الله وسرق بطاقته الشخصية وانتحل قدسيته ثم يتهم الراكب بأنه هو هذا القاتل ويقوم يتقديمه للمحاكمة امام قاضى الوادى ثم يحاكمه ويحكم عليه بالقتل ويطعنه بالخنجر فيقتله ويطلب من الجمهور مساعدته نقل جثته. فينقله ليجلسه فى نفس مكانه فى بداية العرض ليتكرر نفس الفعل من جديد.
قام إعداد النص بحذف شخصية الراوى من النص الأصلى ولم أجد أى سبب لهذا الحذف سوى تحويل النص إلى ديودراما ليتمكن من المشاركة فى مهرجان الديودراما، أى أن الحذف لم يكن لسبب فنى أو موضوعى يتطلبه العرض، ومع حذف شخصية الراوى بكل ماتحمله من دلالات فنية موضوعية وإسقاطات شخصية الراوى على شريحة المثقفين والنخبة المتورطين فى جريمة القتل وعلى الكتلة الصامتة من الشعوب التى تمارس عليها كل أشكال القهر والتسلط، وشخصية الراوى هى الرابط بين الراكب وبين الجمهورفهو فى احد أبعاده يمثل موقف الجمهور السلبى الصامت فيحمله نوعا من الإدانة على هذا الصمت، ومع حذف هذه الشخصية حُذِفت معها كل هذه الدلالات والإسقاطات وفقد العرض محورا هاما من محاور النص فنيا وموضوعيا، وكان من الأجدى أن يختار المخرج نصا آخر ديودراما ليشارك به فى المهرجان بدلا من أن يبتر نصا غير قابل للبتر فتنهار أو على الأقل تتصدع بنيته.
صور الديكور المسرحى قطاعا من القطار بشكل واقعى حيث شباك القطار ووضعية كراسى القطار، وأدخل فى جزء من هيكل القطار الخلفى قضبان سجن وتناثرت مفردات رمزية على خلفية القطار مثل مشنقة وسوط (كرباج) وسلاسل وقيود، وعجلة توجيه دفة السفينة !!، فأصبح الديكور المسرحى خليطا من الرموز المتناثرة بشكل عشوائى وحتى غير جمالى والتى كررت نفس المعنى والدلالة فى النص بشكل مباشر.
ومن ناحية اخرى قام الديكور بوظيفة التحديد المكانى للاحداث سواء بتجسيد مقطع من القطاراو بتحديد مكان قضبان السجن، فاقتصر دوره على وظيفة التحديد المكانى للحدث فقط، فى حين أن اختيار القطار تحديدا كوسيلة السفر فى النص الاصلى لم يكن المقصود منه الدلالة المكانية فقط وإنما كان إختيارا شفريا له دلالة أخرى بعينها وهى أن هذا القطار هو سياق للزمن وللتاريخ، فالقطار لا يتوقف انما هو فى تقدم مستمر ولا يتراجع للخلف ولا يستطيعون الهروب أو النزول منه كدلالة على أن رحلة الراكب هى رحلة جبرية وكأن القهر والتسلط على الشعوب هو كالقدرالمحتوم تمضى وتتكرر دون توقف على مدار الزمن والتاريخ، فالقطار فى النص الأصلى كان سياقا مكانيا وزمانيا تاريخيا فى نفس الوقت، فجاء الديكور المسرحى للعرض مُهمِلا للدلالات الأهم فى النص ومكررا للدلالات الواردة فى النص بشكل مباشر ومكتفيا بوظيفة الوصف المكانى للأحداث. ومن ناحية أخرى لم يهتم الديكور بتعدد المستويات الرأسية بما يتوافق مع دلالات النص فى تعدد مستويات السلطة فجاءت الحركة على مستوى بصرى واحد فتعادلت قوة التأثير الحركى للشخصيتان بصريا مما يتناقض مع تضمينات النص.
وإلتزمت الإضاءة المسرحية بوظيفة الإنارة رغم محاولات ضعيفة لتلوين هذه الإنارة لمجرد الجمالية بلا اى ابعاد دلالية. فلا هى أبرزت الحالات النفسية للشخصيات بشكل كافٍ ولا إلتزمت بواقعية الإنارة ولم تضف حتى أية ملامح جمالية بصرية، فجاءت فاقدة الشخصية والمعنى.
جاءت الرؤية الإخراجية للعرض بعيدة كل البعد عن الوعى العميق بالشفرات الدلالية بالنص وبأبعاده السياسية والوجودية العامة فاكتفت بالوقوف على استحياء عند حدود المستوى النفسى المباشر للشخصيات بل وراحت تفسرها على هواها لدرجة أن يقوم الممثل الذى أدى دور مفتش التذاكر بإضفاء طابع خنثوى على الشخصية !!! لم يدرك الممثل أو المخرج أن هناك فارقا شاسعا بين هدوء المتسلط الواثق ونعومته الثعبانية وبين نعومته الخنثوية التى لاتمت بأى صلة للنص ولا الموضوع. قد يكون أحد مداخل هذه الشخصية هو الشبق الجنسى المرتبط بفعل القهر والتسلط والقتل لكن حتى فى هذه الحالة بالضرورة سيكون شبقا جنسيا ذكوريا وليس خنثويا، فهو يتلون فى نعومة جلد الأفعى، وهدوء وشبق القاتل المحترف، لكن هذا لايعنى انه ديكتاتور مخنث أو قاتل مخنث !!، وهذا يدل على عدم فهم لأبعاد النص وأبعاد الشخصيات ودلالاتها ولمستويات تفسيرها المتعددة.
وبغض النظر عن المدخل الخاطئ لشخصية مفتش التذاكر فقد أمعن الممثل الذى أدى شخصيتة فى الهدوء فى أدائه لدرجة أفقدت العرض إيقاعه الدرامى فى مناطق متعددة، فى حين حاول الممثل الذى أدى دور الراكب تعويض هذا الترهل فى الإيقاع تارة بالأداء الكوميدى وتارة بالانفعال الزائد عن الحد فجاء أداؤه ضجيجا بلا طحين. ناهيك عن تكوين الممثل الذى ادى دور الراكب المادى فى مظهره بشعره الطويل المربوط فى نهايته مما يخرجه شكلا من حيز الصورة الذهنية المتعارف عليها للمواطن العربى أو حتى من حيز الحياد الشكلى فيبتعد كثيرا عن إسقاطات النص الضمنية لهذه الشخصية على المواطن العربى تحديدا.
فى المجمل جاء العرض بعيدا عن مقاصد النص غير مدرك لخصوصيته الفنية أو الموضوعية أو غير مراعٍ لشبكة دلالاته وعلاقته ومستويات تفسيره المتعددة فكان عرضا عشوائى الرؤية ولولا قوة الجمل الحوارية فى النص فى حد ذاتها لانهار العرض مسرحيا، وهذه احد الظواهر التى تظهر فى عروض الهواة انهم حينما يتصدون لعمل مسرحى لأحد كبار الكتاب لايسعون لدراسة خلفياته وملامحه الفنية ومرجعياته الفكرية كى يحددوا مداخلهم الفنية والفكرية إلى هذا العمل فلا يكونوا مجرد تحصيل حاصل عشوائى.