"الحب لا يحدث حتما من أول نظرة، ولكن النظرة الأولى تكفى لاكتشاف من تربطهم بنا صلة روحية عسية أن تصير الحب نفسه، أليس يقولون أن الأرواح تتخاطب بغير إحساس البتة! فنظرة واحدة تبلغ بالروح فوق ما تريد، أما الحب الذي تلده الأيام وتنبهه المعاشرة، فمرجعه على الغالب العادة أو المنفعة أو غيرهما من القيم التى لا تدرك إلا بالروية والإمهال" هكذا تحدث الأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ عن الحب في روايته "خان الخليلى"، ووصف النظرة الأولى للمحبين، والحالة التي تنتاب العشاق عند رؤية الحبيب لأول مرة.
نجيب محفوظ الأديب العربى الوحيد الحاصل على نوبل في الآداب لعام 1988، كثيرا ما حملت روايته العديد من قصص الحب والغرام، واستطاع وحده أن يجسد أحاسيس العشاق المرهفة بالكلمات ويرسم لوعة الحب في أعين العاشقين على صفحات أعماله، لكن كيف كان الحب الأول في حياة أديب نوبل، وكيف كان تأثير النظرة الأولى في حياة صاحب "عصر الحب".
في حديثه مع الناقد الكبير رجاء النقاش في كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" تحدث صاحب "الحب فوق هضبة الهرم" عن أول قصة حب في حياته، كيف بدأت وكيف انتهت، ووصف حبيبته الأولى قائلا:
"علاقتى بالمرأة بدأت في سن مبكرة، ففي سنوات طفولتى والتى أمضيتها فى حى الجمالية، كان متاحا لنا اللعب مع البنات من نفس عمرنا، وخاصة فى شهر رمضان، وكانت الصداقة الطفولية تلك تستمر حتى تصل البنات إلى أعتاب مرحلة المراهقة، وعندما تستقر فى المنزل انتظارا للزواج، فى ذلك الجو الطفولى المفعم بالبراءة عشت أول قصة حب، وكانت قصة ساذجة وبريئة وقصيرة، وانتهت بمجرد انتقالنا إلى العباسية.
فى العباسية عشت أول قصة حب حقيقية فى حياتى، وهى قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهنى، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة، وقبل أن أدخل هذه التجربة كانت علاقتى بالبنات لا تزيد على مداعبات تتجاوز الحد أحيانا، وكانت هذه التجاوزات البريئة تصطدم بالإحساس الدينى وهو على أشده فى تلك الفترة، لدرجة أننى كنت أتوجه بالتوبة إلى الله يوميا، وأعيش فى عذاب مستمر من تأنيب الضمير، واستمرت هذه الحالة حتى رأيتها، كنت ألعب كرة القدم فى الشارع مع اًصدقائى، وكان بيتها يطل على المكان الذى نلعب فيه، وأثناء اللعب شدنى وجه ساحر لفتاة تطل من من الشرفة، كنت في الثالثة عشرة من عمرى، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية، رأيت وجها أشبه بلوحة "الجيوكندا" – يقصد الموناليزا – التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى، ربما جذبنى إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللائى عرفتهن قبلها، لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبى في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك".