الحملات الصليبية التى استمرت على الشرق الإسلامى نحو 200 سنة، كان فيها كل عجيب وغريب، بداية من حملة الأطفال وانتهاء بأسر لويس التاسع فى دار ابن لقمان، لكن ليس هناك أغرب من الحملة الصلبية السادسة التى قادها الإمبراطور فريدريك الثانى إمبراطور ألمانيا.
وفى عرضنا لمعلومات عن الحملة الصليبية السادسة نعتمد على ما كتبه عبدالوهاب سنان النوارى حيث يقول "كانت الحملة السادسة (1228- 1229ميلادية) موجهة إلى بيت المقدس، حملة صغيرة لا يتجاوز عدد رجالها الـ600 فارس فقط، والأعجب أنها جاءت استجابة لرغبة السلطان محمد الكامل الأيوبى نفسه، وباتفاق وتفاهم بينه وبين فريدريك الثانى، إمبراطور ألمانيا ومملكة الصقليتين صقلية ونابولى".
كما أن هذه الحملة لم تشهد قتالا أو إراقة دماء من الجانبين، لكنها حققت هدفا صليبيا كبيرا، هو استعادة بيت المقدس تحت السيطرة الصليبية، والأغرب أن الإمبراطور فريدريك الثانى قائد الحملة تعرض لعقوبة الحرمان البابوى، وذلك لما بينهما من عداوة كانت مشهورة، سببها ميل الإمبراطور ورجاله إلى المسلمين.
توج فريدريك الثانى إمبراطورا فى 1215م، وذلك فى مدينة آخن الألمانية، وكان عمره آنذاك اثنان وعشرون عاما، وفى حفل التتويج تعهد فريدريك الثانى بحماية المسيحية وتحقيق أهداف الكنيسة، إلى جانب تعهدات أخرى، قطعها على نفسه للبابا إنوسنت الثالث (1198-1216)، ولكن تصرفات وإجراءات الإمبراطور اللاحقة لهذه التعهدات جعلت البابا ينظر إلى سياسة فريدريك الثانى بعين ملأها الشك والخوف مما سيتمخض عنه المستقبل، وكان الإمبراطور فريدريك الثانى، قد وعد البابا إنوسنت الثالث، فى عام 1215م, بالقيام بحملة صليبية، كما وعده بفصل حكم صقلية عن تاج الإمبراطور ولكنه عاد وماطل فى الوفاء بوعوده.
وما أن تولى كرسى البابوية البابا هونوريوس الثالث (1216-1227م) إلا وبدأ يطالب فريدريك الثانى بتنفيذ تعهداته سواء فيما يتعلق بإيطاليا أو بالتوجه فى حملته التى وعد أن يتوجه بها إلى الشرق لإعادة السيطرة الصليبية على بيت المقدس، وفى سنة 1220م، أعيد تتويج فريدريك الثانى إمبراطورا فى كنيسة القديس بطرس بروما، بعد أن جدد العهد للبابا بإرسال وقيادة حملة إلى الشرق، بل أن فريدريك الثانى حدد فى هذه المرة موعدا لانطلاق حملته، حيث أعلن أن ذلك سيتم فى شهر أغسطس 1221م. وبطبيعة الحال لم يف الإمبراطور بهذا التعهد.
ويبدوا أن فريدريك الثانى، لم يكن جادا فى تحمسه للمشروع الصليبى، فى الوقت الذى كانت فيه البابوية تتوق إلى إرسال حملة صليبية على وجه السرعة، لإصلاح الموقف الذى نجم فى المشرق، عند فشل الحملة الصليبية الخامسة على مصر، وهنا يصح أن نشير الى أن (حنا دى برين) ملك مملكة بيت المقدس، ذهب بنفسه إلى إيطاليا فى خريف سنة 1222م، ليشرح للبابا والإمبراطور سوء موقف الصليبيين فى الشام، مستحثا الغرب على إرسال النجدات والمساعدات العاجلة، كما زار العديد من البلدان الأوربية؛ ليطلب من ملوكها النجدة السريعة.
وقد عاد الإمبراطور فريدريك الثانى، وجدد وعده بحملة تكون فى سنة 1223م، ولكنه كالعادة أخلف وعده، ولم تكن أعذاره مقبولة من قبل البابا هونوريوس الثالث، الذى وجه لفريدريك الثانى نقدا شديدا، ولكن البابا ولكى يقدم إغراءات جديدة لخصمه الإمبراطور اقترح بأن يتزوج الإمبراطور فريدريك الثانى من وريثة عرش مملكة بيت المقدس وهى (يولاند) ابنة حنا دى برين، والمهم فى هذا الزواج الذى تم فى 1225م أن أصبح فريدريك الثانى حاكما لمملكة بيت المقدس وكان عليه وفقا لقوانين هذه المملكة أن يتواجد فيها فى مدة لا تتجاوز سنة ويوم من تاريخ الزواج فكان على فريدريك الثانى أن يُتم رحلته إلى الشرق قبل العاشر من نوفمبر 1226م. وكالعادة لم يُتم الإمبراطور وعده.
ورغم أن الإمبراطور تعهد للبابا بأن ينفذ مشروعه الصليبى فى أغسطس سنة 1227م ورغم أنه تعهد بإيداع كفالة مالية قدرها مائة ألف أوقية من الذهب فى خزانة البابوية بروما لا ترد إلى الإمبراطور إلا إذا وفى بوعده، إلا أن فريدريك الثانى لم يخط خطوة واحدة فى سبيل تنفيذ وعده الصليبى هذا، بل أنه عقد مؤتمرا فى سنة 1226م, أعلن فيه تمسكه بحقوقه الإمبراطورية كاملة، لاسيما فيما يتعلق بالسيادة على لمبارديا، وقد فزعت المدن الإيطالية فى لمبارديا - وهى الحريصة على استقلالها وسيادتها - فجددت حلفها مع البابا ضد الإمبراطور.
توفى البابا هونوريوس الثالث سنة 1227م ليتولى كرسى البابوية البابا جريجورى التاسع (1227-1241م) هذا البابا الذى كان يعرف عن تصرفات فريدريك الثانى ووعوده التى لم تنفذ، إضافة الى اجراءاته الموجهة ضد البابوية فى إيطاليا، وأمتاز هذا البابا بقوة الإرادة رغم تقدم سنه، فأبى قبول الأعذار التى طالما انتحلها فريدريك الثانى لتأجيل حملته الصليبية، وأصر على ضرورة رحيل الإمبراطور إلى الشرق فورا، وكان أن أبحر الإمبراطور فعلا قاصدا بلاد الشام, ولكنه عاد بعد أيام مدعيا المرض مما جعل البابا يعتبر المرض تمارضا, وأصدر قرار الحرمان ضد الإمبراطور وذلك فى 2 سبتمبر من عام 1227م.
كان الأيوبيون فى الشرق يتصارعون ضد بعضهم البعض، ومن هنا استعان السلطان الكامل محمد بالإمبراطور فريدريك الثانى صاحب صقلية وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة وطلب منه الحضور إلى الشرق لمساعدته ضد أخيه المعظم والخوارزمية ووعده بإعطائه الساحل وبيت المقدس.