نواصل مع الكاتب العربى الكبير جواد على (1907- 1987) التعرف على العرب وتاريخهم من خلال كتاب المهم "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" ونتوقف معه في بحثه عن شخصية "لقمان".
يقول الكتاب "من قبائل عاد قبيلة كان فيها "لقمان" الذى ورد ذكره فى القرآن الكريم وفى الشعر الجاهلى وفى القصص، وقد ضُرب به المثل بطول العمر، فعُدّ فى طليعة المُعَمّرين، وعدّه "أبو حاتم السجستاني" ثانى المُعَمّرين فى العالم بعد الخضر، وقد كان عرب الجاهلية يعرفون قصص "لقمان"، وكانوا يصفونه بالحكمة، وقد وُصف فى القرآن الكريم بهذه الصفة {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}، ولهذا السبب عُرف بين الناس وفى الكتب بـ "لقمان الحكيم"، وذُكر عنه أنه كان "حكيمًا عالمًا بعلم الأبدان والأزمان" وأنه طلب من الله أن يُعَمَّر طويلا فأعطاه طلبه: وعُمّر عمر سبعة أنسر، وذكر الأخباريون أن آخر نسر أدركه، وهلك بهلاكه اسمه "لبد"، قالوا وإليه يشير "النابغة"بقوله:
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا.. . أخنى عليها الذى أخنى على لبد
وقد أكثرت العرب فى صفة طول عمر النسر، وضربت به الأمثال، وذكروا فى ذلك شعرًا، منه ما نسب إلى "الخارجى" فى طول عمر "معاذ بن مسلم بن رجاء"، مولى القعقاع بن حكيم:
يا نسر لقمان، كم نعيش، كم.. . تلبس ثوب الحياة يا لُبَدُ؟
قد أصبحت دار حمْيَر خربت.. . وأنت فيها كأنك الوتد
تسأل غربانها إذا حَجَلت.. . كيف يكون الصداع والرمد؟
ويذكر أهل الأخبار أن "لقمان" قد عرف لذلك بـ "لقمان النسور"، لأنه عَمّر عمر سبعة نسور. وذكر بعض أهل الأخبار أنه عَمّر مائة وخمسين سنة، وأنه لما مات قبر بحضرموت، أو بالحجر من مكة. وهو عمر لا يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار من طوله، ومن أنه يعادل عمر سبعة نسور. أما "السجستانى"، فجعل عمره خمسمائة سنة وستين، وهو عدد أخذ من عمر النسور المذكورة؛ إذ عاش كل نسر ثمانين عامًا، والعدد المذكور هو مجموعة عمر تلك النسور السبعة، غير أن من الأخباريين من أعطاه عمرًا قدّره بثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. وهو عمر يؤهله ولا شك لأن يكون فى عِدَاد المُعَمَّرين.
وقد ورد اسم لقمان على أنه اسم خمّار فى شعر منسوب للنابغة حيث يقول:
كأن مشعشًعا من خمر بصرى.. . نمته البخت مشدود الخيام
حملن قلاله من بين رأس.. . إلى لقمان فى سوق مقام
وجعلوا للقمان نسبًا هو "لقمان بن عاد"، وصيّروه "لقمان بن ناحور بن تارخ"، وهو "آزر" أبو "إبراهيم". وقال بعضهم: بل هو ابن أخت "أيوب"، أو ابن خالته، وجعله آخرون من حمير، فقالوا له: "لقمان الحميرى"، وصيّره آخرون قاضيًا من قضاة "بنى إسرائيل". وقد اشتهر عند المسلمين بالقضاء، ويظهر أن هذا السبب هو الذى جعل الواقدى يقول: إنه كان قاضيا فى بنى إسرائيل. ولم يفطن الأخباريون إلى هذه الأخبار المتناقضة التى تخالف رواياتهم فى عاد، وأنها من أمم العرب البائدة، إلا إذا جعلناه من الطائرين على قوم عاد الداخلين فيهم، فهو غريب بين قوم عاد.
ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن الأخبارين كانوا يرون وجود لقمان آخر، هو غير لقمان عاد. فقد زعموا أنه كان فى عهد "داود" لقمان، عُرف بـ "لقمان الحكيم"، وقد نسبه بعضهم على هذا النحو: "لقمان بن عنقاد"، وقد زعم "المسعودى"، أنه كان نوبيًّا، وأنه كان مولى للقين بن جسر، ولد على عشر سنين من ملك داود، وكان عبدًا صالحًا، منّ الله عليه بالحكمة، ولم يزل باقيًا فى الأرض مظهرًا للحكمة فى هذا العالم إلى أيام يونس بن متّى حين أرسل إلى أرض نينوى فى بلاد الموصل.
وهنالك من فرَّق بين "لقمان بن عاد" وبين "لقمان" المذكور فى القرآن، قال الجاحظ: "وكانت العرب تعظِّم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر، ولقيم بن لقمان فى النباهة والقدر وفى العلم والحكم، فى اللسان وفى الحلم، وهذان غير لقمان الحكيم المذكور فى القرآن على ما يقوله المفسّرون" وقد أورد الجاحظ جملة أبيات للنمر بن تولب فى لقمان ولقيم.
وقد ذكر الجاحظ أنه كانت للقمان أخت محمقة؛ تلد أولادًا حمقى، فذهبت إلى زوجة لقمان، وطلبت منها أن تنام فى فراشها حتى يتصل بها لقمان، فتلد منه ولدًا كيِّسًا على شاكلته، فوقع عليها فأحبلها بـ"لقيم" الذى أشرت إليه؛ فهو ابن لقمان إذن من أخته، وقد أورد الجاحظ فى ذلك شعرًا جاء به على لسان الشاعر المذكور، أى: "النمر بن تولب"، زعم أنه نظمه فى هذه القصة، وزعم الجاحظ أيضا أن لقمان قتل ابنته "صُحرا" أخت "لقيم"، وذلك أنه كان قد تزوّج عدة نساء كلّهن خنّه فى أنفسهنّ، فلما قتل أخراهنّ ونزل من الجبل، كان أول من تلقاه "صُحرا" ابنته فوثب عليها فقتلها، وقال: "وأنت أيضا امرأة". وكان قد ابتلى بأخته على نحو ما ذكرت، فاستاء من النساء. وضربت العرب فى ذلك المثل يقتل لقمان ابنته صُحرا، وقد أشير إلى ذلك فى شعر لـ "خفاف بن ندبة".