اقرأ التاريخ وتعلم منه حتى لا تعيشه مرة ثانية، ربما هذه هى الحكمة غير المباشرة التى فكر فيها الكاتب الصحفى الكبير سعيد الشحات عندما بدأ كتابة مقالاته بعنوان "ذات يوم" فى جريدة "انفراد"، لكن السبل تنوعت بعد ذلك واختلفت وأخذت شكلا جماليا بجانب الإفادة، خاصة أن "الشحات" لم يقصد الأحداث الجسام قصدا، لكنه وقف كثيرا أمام التفاصيل وأمام غير المشهور من الحكايات وتريث كثيرا أمام بدايات ونهايات الأشياء ولم يتنازل أبدا عن الإنسانى فى حكاية التاريخ.
"(ذات يوم) ليست تأريخا بالمعنى الأكاديمى، فهذا أمر له أهله المتخصصون، لكنها سباحة لقراءتى فى التاريخ، فالتقطت منه بعضا من ذخائره".. بهذه الجملة المهمة التى توضح منهج الكتاب وتكشف عن التواضع المحبب والجميل ينهى سعيد الشحات مقدمة الجزء الأول من كتابه المهم الذى صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
عندما تغوص فى قراءة كتاب "ذات يوم.. يوميات ألف عام.. وأكثر" ربما تتراجع قليلا ناظرا للبعيد قائلا: ما أكثر أفراحك يا مصر وما أكثر مآسيك أيضا، فأنت والتاريخ تترصدان لبعضكما.. وأنت أيها العالم لا يمر يوم إلا وقام أحدهم بإعادة كتابتك من جديد.
فبين الفرح والألم والنجاح والفشل يرسم سعيد الشحات خارطة لتاريخ مصر لزعمائها ورجالها وأحداثها، ودائما ما يكون لليوم بطل أحيانا حدثا وفى أحايين كثيرة يصبح شخصا يحكى ويحكى عن تفاصيل التاريخ أكثر من الكلام عن التاريخ نفسه.
يبدأ الجزء الأول من "ذات يوم" بالأول من يناير 1956 فيحكى عن استقلال السودان عن مصر ما يمثل فرحا لدى السودانيين و"غصة" عند بعض المصريين الذين كانوا يتمسكون بالوحدة، ربما هذه البداية وهذا الاختيار الذى يؤكد الدور المحايد للمؤلف فهو يكتب عما يختاره اليوم وليس عما تهواه نفسه والدليل أنه يفاجئك فى اليوم الثانى بوجع "سقوط الأندلس"، ثم تتوالى الأيام حزينة وفرحة حسب ما فى الحياة، نفرح بنجاحات بلادنا ونحزن لألمها وأحداث العالم من حولنا يغلف همومنا وتؤكد لسنا وحدنا المصابين وأن البلاد يبنيها أبناؤها المخلصين.
يحوى الكتاب الكثير من الأحداث التى لا يوحى الظاهر بأنها مترابطة معا، لكن بالتمعن فيما كتبه "سعيد الشحات" ستجد خيطا رقيقا يجمع هذه الحوادث فهناك علاقة ما تجمع بين موت سليمان خاطر، ووفاة أحمد عرابى وكون أسرته لا تجد نفقات تجهيز جنازته فى 21 سبتمبر 1911، واستشهاد أحمد عصمت فى 1952 ردا على ما حدث من الإنجليز فى موقعة التل 1952، ومصرع "جيفارا"، بعد أن تداعت عليه الأمم، كل ذلك يصعد بالجملة المهمة جدا "ليت السماء تقع على الأرض" التى قالتها السيدة زينب بنت على بن أبى طالب، عندما تكالب الجميع على شقيقها سيد الشهداء.
ومن ناحية أخرى سنعيش مع صراعات القصور والدسائس مع إعدام بوتو، وطومان باى، ومقتل مروان بن الحكم وعبد الكريم قاسم، وقتل هارون الرشيد للبرامكة كما تحظى أسرة محمد على وأحفاده توفيق وأبوه إسماعيل والملك فاروق بحياته وعشيقاته ونفيه نتتبعه حتى وفاته غريبا، فالنفى رائحة تلقى أثرها على معظم أجزاء الكتاب.
ونتابع انتهاء الأحلام وتكسر أدواتها، حيث نشاهد لحظات موت شخصيات مهمة رحلت وتركت أثرها الكبير محمد فريد، قاسم أمين، أمل دنقل، أحمد رامى، الشيخ إمام، عاطف الطيب، طلعت حرب، بليغ حمدى، عبد الحكيم عامر، القصبجى، محمود مختار، يوسف صديق، عبد الرحمن الخميسى، عبد الرحمن منيف، عبد المنعم رياض، بوشكين.
المآسى أيضا لها حضور فى الكتاب، فإعدام خميس والبقرى سبة دائمة فى جبين الثورة والحكم بإعدام فلاحى دنشواى إدانة دائمة للأحرار فى تاريخ البلاد، وإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وجع عالمى ممتد، وحريق القاهرة، ودناءة الإسرائيليين فى بحر البقر ودير ياسين يجعل القلب مشتعلا دائما.
يمتلئ الكتاب بما لا نعرفه وبما تورده كتب التاريخ على أنه هامش لكن "الشحات" يحوله "متنا" ويصدره ويؤكد أن التفاصيل هى من تصنع التاريخ فكلنا لا يعرف أول شهداء ثورة 1919 محمد عزت البيومى وحميدة خليل ولا عودة جثمان الخديو إسماعيل من تركيا، ومن قبل تلقيه لنبأ موت ابنه توفيق وغير ذلك الكثير.
عام كامل من الكتابة يرصده أمامك "سعيد الشحات" فى الجزء الأول من "ذات يوم" لتعرف فى النهاية أن يومك العادى بالنسبة للعالم ليس كذلك وبالنسبة للتاريخ حركة تغيير أقامت دولا وأنهت أخرى أقامت إمبراطوريات وخربت أخرى، لا يحكى سعيد الشحات ليسلى ولا يكتب ليعطينا العظة المباشرة.. لكنه يكتب لندرك نحن أبناء الحاضر أن أبانا التاريخ هو من صنع حاضرنا ربما حينها نتنبه جيدا للأحداث التى تحيط بنا.