خالد أبو الليل يكتب: العشرينيات والتحولات الفكرية

يعد عقد العشرينيات من العقود المفصلية فى العصر الحديث، فهو عقد مرتبط- دوما- بفعل أو صدمة ثقافية، تلقى بظلالها على المشهد الثقافى، فتحرك المياه الراكدة، كأنما ألقى حجر فى بئر مياهه الساكنة. ويترك هذا الفعل أثره على امتداد القرن بأكمله. فمع مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1921، تعرف مصر- وبالطبع العالم العربي- أول مطبعة، هى مطبعة بولاق، التى نقلت العالم العربى كله- ثقافيا- نقلة مهمة، بل ساهمت فى نقل الفكر العربى من مرحلة الشفاهية، بأنواعها الأدبية التقليدية، وطبيعة فكرها الشفاهية، إلى مرحلة الكتابية، بأنواعها الأدبية الحديثة، أى من مرحلة "الشعر ديوان العرب"، إلى إرهاصات مرحلة الفنون الأدبية الحديثة، وعلى رأسها الرواية والقصة القصيرة والمسرح. كذلك شهد هذا العقد- كذلك- سفر أول بعثة إلى أوربا، وتحديدا عام 1926؛ إذ يسافر رفاعة رافع الطهطاوى على رأس أربعين مبعوثا إلى فرنسا. وغنى عن البيان أثر هذه البعثة- فكريا- وما ترتب عليها من حراك فكرى فى مصر والعالم العربي، دفع العلاقة بين الشرق والغرب نحو مرحلة جديدة من التأثير والتأثر. ومع مطلع عشرينيات القرن العشرين نجد ثلاثة أحداث مهمة، تجمع بين السياسى والدستورى والفكري. ففى عام 1919 يقود الشعب المصرى ثورته ضد الإنجليز، هذه الثورة التى أثرت تأثيرات كبيرة فى المجتمع المصري. وفى عام 1922 يصدر تصريح 28 فبراير الذى يعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، ويعقبه فى 19 أبريل عام 1923 وضع دستور جديد للبلاد. ومع منتصف هذا العقد، وتحديدا عام 1926، تنطلق أهم معركة فكرية فى القرن العشرين حول كتاب "الشعر الجاهلي"، طرفاها العقلانيون ويمثلهم طه حسين وأنصاره، والنقليون ويمثلهم الأزهر وأنصاره، وهى معركة لم تنته وقائعها حتى الآن، ولم تخبُ آثارها بعد؛ للدرجة التى أرانى أقول- بيقين- إن معركة عقد عشرينيات القرن الحادى والعشرين الذى تابعناه منذ فترة قريبة بين شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، ورئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت، ما هى سوى امتداد لتجليات حوارات ومعارك عشرينيات القرون السابقة. إذن دعونا نتفاءل بتلك المعركة الفكرية التى اُستهل بها هذا العقد. إن المتأمل لهذه المعركة الأخيرة، التى دارت فى جامعة الأزهر، إبان انعقاد مؤتمر تجديد الخطاب الإسلامى يمكنه ملاحظة العديد من المفارقات. فبرغم أهمية هذه الحادثة، بغض النظر عن مسماها (معركة أو مناظرة أو حوارا)، فإن التلقى لها- فى معظمه- اتسم بالتلقى القبلي، أو قل تلقيا أقرب ما يكون إلى حالة مشجعى الفرق الرياضية. حيث حالة التصفيق الحاد، التى كثيرا ما كانت بلا مبرر، نظير كثير من بعض الكلمات والعبارات التى وجهت لهذا الجمهور الأزهري، جاء معظمها لدغدغة مشاعر هذا الجمهور. فى المقابل ظهرت الدهشة على وجه ممثل التيار المدنى د. محمد الخشت؛ الذى استغرب فهم كلماته على غير محملها، وتم تصنيفه فى تيار بالرغم من استقلالية فكره، وإن التقت بعض أفكاره مع بعض أفكار هذا التيار المحسوب عليه خطأ. كذلك اندهش الخشت من رد الفعل التحميسى لأبناء هذا التيار، الذى لا يوازى حالة الهدوء التى انطلق منها حديثه. غير أن أكثر ما دفع الخشت إلى الاستغراب هو أن رأيه الذى انطلق منه كان أولى بشيخ الأزهر أن يرد على الحجة بالحجة، وليس الرد على العقل بكلام عاطفى قد لا يقبله العقل، وإن خفق له القلب. عندما تأملت التحول المفاجئ فى رد فعل الشيخ أحمد الطيب الانفعالي، المعروف عنه الهدوء، أمكننى إرجاعه إلى أسباب ثلاثة. أولها: أن المؤتمر معقود فى جامعة الأزهر، التى لديها حساسية من كلمة "تجديد"، خاصة بعدما تزايد الحديث عن مطالب التجديد فى الخطاب الإسلامى الأصولي، الذى ساهم فى إفراز حالات كثيرة من متطرفى الفكر، وبعدما أصبح هذا المطلب ضرورة؛ نظرا لكونه صار مطلبا ملحا، لذلك فقد وجد الشيخ الطيب الفرصة سانحة للرد على هذا المطلب بصورة عاطفية أمام أنصاره وفى بيته، وهو ما وجد صداه بهذا التصفيق الحاد عقب كل جملة يرددها الشيخ. ثانيها: أن هذا الخطاب الخشتى جاء فى اليوم التالى لإعلان ترامب عن مبادرته للسلام، وهو ما رأى الشيخ الطيب فى الرد عليه فرصة مواتية للرد على تلك الصفقة؛ لذا جاء حديث الشيخ الطيب بمثابة إعلان شعبى "غير رسمي" عن موقف الأزهر من هذه الصفقة، ورفضه لها؛ رفعا للحرج عن الدولة. ثالثها: أن هذا المؤتمر، وحديث الدكتور الخشت، جاء عقب حكم المحكمة الإدارية العليا النهائى بحظر ارتداء عضوات هيئة تدريس جامعة القاهرة النقاب داخل قاعات تدريس كليات الجامعة. وهو ما جعل من رئيس جامعة القاهرة- أو هكذا تم تصويره- خصما للأزهريين، بل لا نبالغ إذا ما قلنا إنهم جعلوه خصما للإسلام؛ تبعا للقياس الخاطئ لديهم. هذا هو السياق الحقيقى الذى يمكن أن نفهم فى إطاره رد الفعل الانفعالى لشيخ الأزهر على آراء واجتهادات عقلية منطقية جاءت على لسان رئيس جامعة القاهرة، هذا بالرغم من- وإذا نزعنا شيخ الأزهر عن هذا السياق- اتفاق الدكتور أحمد الطيب والدكتور محمد الخشت فى كثير من الأمور حول هذه الآراء، وهو ما يمكن أن نجد صداه فى اختيار الدكتور الخشت- منذ حوالى عشر سنوات- لشخصية الدكتور الطيب ليكون عضو الهيئة الاستشارية فى واحدة من أهم المجلات العلمية التى تصدر عن جامعة القاهرة، وهى مجلة "هرمس". إن هذه الصدفة التى تجعل من عقد العشرينيات من كل قرن عقدا مفصليا، تجعلنى أؤمن أن نتائج تلك المعركة ستكون إيجابية، وستدفع بالعقل المصرى خطوات نحو الأمام؛ للتخلص من هذه التهم الجاهزة، مثل التكفير. غير أن الملاحظة الأكثر أهمية التى أود أن أختم بها مقالى هذا، هو أن هذا العقد بقدر ما يمثل عقدا مفصليا، فإنه عقد التصنيف إلى ثنائيات، قد تبدو متناقضة، وإن كانت غير ذلك. أحد أطراف هذه الثنائية هو الأزهر. هذا الأزهر، الذى نتباهى ونفتخر به لأدواره التى قام بها طوال تاريخه، غير أنه بالرغم من دوره التنويرى الذى لعبه طوال معظم تاريخه، والتى منها عشرينيات القرن التاسع عشر عندما خرج من بين أبنائه رفاعة الطهطاوي، الذى قاد حركة التنوير والترجمة والتلاقى الثقافى مع الآخر، فإنه يعود فى عشرينيات القرن العشرين والحادى والعشرين؛ ليقف فى وجه هذه الاجتهادات، وإلقاء التهم على المختلفين معه. من هنا فعلى الأزهر أن يراجع دوره، وأن يصطف مع التيار المدني، الذى مثلته- هنا- جامعة القاهرة، للنهوض بالخطاب الديني، على النحو الذى يدفعنا نحو مرحلة جديدة من التفكير؛ وحتى لا نجد أبناءنا يبدأون من النقطة نفسها فى عشرينيات القرن الثانى والعشرين.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;