«أهنيك يا آنسة، ونهنئ أنفسنا بك»، هكذا خاطب الأمير محمد على «شقيق الخديو عباس حلمى الثانى» الآنسة مى زيادة وهو يصافحها.
جاءت التهنئة فور انتهاء «مى» من خطبتها فى الحفل الذى أقيم بدار الأوبرا بالقاهرة فى مثل هذا اليوم «24 إبريل 1913» تكريما لشاعر القطرين «خليل مطران» الذى أهداه الخديو وساما، وتفرد الحدث بوجود فتاة تلقى خطبة على الحاضرين بين كوكبة عظيمة من أهل الفكر والأدب، وإذا كانت القاعدة تقول إنه «ليس كل كاتب ينفع خطيبا»، فإن مى جمعت بين الاثنين، ووفقا للكاتبة سلمى الحفار الكزبرى فى مجلدها الأول: «مى زيادة» أو مأساة النبوغ «مؤسسة نوفل- بيروت»: «خطيبة عظيمة سحرت الجماهير فى مواقفها الخطابية فى مصر وسوريا ولبنان، وأثبتت فى كل مناسبة ألقت فيها خطبة فى الثلث الأول من القرن العشرين، أنها أميرة المنابر».
جاءت إلى مصر من لبنان مع والديها عام 1908، وكان عمرها وقتئذ 22 عاما، وتوفيت فيها «18 أكتوبر 1941»، وشقت طريقها فى مناخ تصفه «الكزبرى»: «إن المثقفات من النساء كن نادرات، والكاتبات العربيات كن أندر، فلم تعرف مصر سوى وردة اليازجية وعائشة التيمورية قبل مى، ومن ثم ملك حفنى ناصف، ولبيبة هاشم، وروزاليوسف الصحافية المشهورة، وهدى شعراوى زعيمة النهضة النسائية اللواتى عاصرنها، أما سائر النساء فقد كن محرومات من التعليم الثانوى، لافتقار مصر يومئذ إلى مدارس للفتيات، لأن الإنجليز لم يسمحوا بإنشاء مدرسة ثانوية للبنات»، وفى هذا المناخ علينا أن ندرك روعة أن تكون هناك فتاة كاتبة وأديبة ومترجمة وشاعرة، أما وأن تكون خطيبة مفوهة أيضا فهذا يزيد الروعة.
كان كبار الكتاب العرب المغتربين مدعوين إلى الحفل، ومنهم «جبران خليل جبران الذى أرسل كلمة من مكان إقامته فى نيويورك»، وألقتها هى نيابة عنه، وتتحدث هى عما جرى قائلة:
«لا أكتم أنى تهيبت هذا الموقف أمام أقطاب الأدب والعلم والوجاهة، فصارحت والدى بذلك، ولقيت كل التشجيع، جلست بين الخطباء أمام المنصة فى مساء الرابع والعشرين من إبريل 1913، بعد أن أوصانى الأستاذ سليم سركيس بأن أبيض وجهه، واعتمدت على الله، وجاءت ساعة الخطابة، فلما حال دورى شعرت بقشعريرة تنساب فى عظامى، وبالخوف يدب فى نفسى، وكان بجانبى زكى باشا، فلمح الوهم على وجهى، وأسر إلى بكلمة لطيفة مشجعة، وقد عزف قبل دورى فاصل موسيقى، فأثرت الموسيقى فى نفسى، وساعدتنى أنغامها على السيطرة على أعصابى فنهضت وألقيت كلمة جبران «الشاعر البعلبكى» بحماسة، واتبعتها بكلمتى، ويظهر أن الإلقاء كان ناجحا، إذ قام الأمير محمد على رئيس الحفلة وصافحنى وهنأنى».
لم تبق صحيفة أو مجلة فى القاهرة آنذاك إلا وهللت لاكتشاف نبوغ مى فى الأدب والخطابة على حد سواء، وبلغ تأثيرها فى هذا اليوم حد أن الدكتور طه حسين خفق قلبه لها بعد استماعه إليها، ويفصح عن ذلك صراحة فى مذكراته «الأيام» «الهيئة العامة للكتاب- القاهرة»، وتحت عنوان «عندما خفق القلب لأول مرة» يقول: «احتفل ذات مساء فى حجرة من حجرات الجامعة القديمة بتكريم خليل مطران، رحمه الله، وكان الشعراء ينشدون فى الاحتفال الشعر، وكان الخطباء سيلقون فيه الخطب، فاعتذر الفتى «طه حسين» إلى أستاذه فى الجامعة عن عدم حضور الدرس، وآثر شهود ذلك الحفل، وفيه سمع كثيرا من الشعر، وكثيرا من الخطب فلم يحفل بشىء مما سمع، لم يعجبه شعر حافظ فى ذلك المقام مع أنه كان كثير الإعجاب بشعره، ولم تعجبه قصيدة «مطران» لأنه لم يفهم منها شيئا، ولم يذق منها شيئا، وربما أحس فيها إسرافا من الشاعر فى التضاؤل أمام الأمير الذى أهدى إليه ذلك الوسام، فقد شبه نفسه بالنبتة الضئيلة، وشبه الأمير بالشمس التى تمنحها الحياة والقوة والنماء، لم يرض الفتى عن شىء مما سمع إلا صوتا واحدا سمعه فاضطرب له اضطرابا شديدا أرق له ليلته تلك، كان الصوت نحيلا، وكان عذبا رائقا، وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه فى خفة إلى القلب، فيفعل فيه الأفاعيل، وكان صوت الآنسة مى التى كانت تتحدث إلى الجمهور للمرة الأولى».