نواصل مع المفكر العربى الكبير جواد على (1907- 1987) قراءة التاريخ العربى قبل الإسلام وذلك من خلال كتابه المهم "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" ونتوقف مع النبى إسماعيل.
يقول جواد على "إسماعيل" هو الجد الأكبر للعرب المستعربة، أى: العرب العدنانيين، وهو "يشمئيل" "Ishmael" فى التوراة، ومعنى الاسم "إلهى يسمع"، أو "يسمع إلهى"، وهو ابن "إبراهيم" من زوجه "هاجر".
وتقول التوراة: إنه "ختن" وهو فى الثالثة عشرة من عمره، ورحل إلى بَرِّية "فاران" فتزوج فيها من امرأة مصرية، وعاش فيها راميًا بالسهام حيث اشتهر بالرماية، ولم تذكر التوراة بعد ذلك شيئا عنه، إلا ما ورد من أنه حضر دفن أبيه "إبراهيم"، وأنه عاش "137" سنة.
هذا مجمل ما ورد فى التوراة عنه، أما ما أورده أهل الأخبار عنه، فإنه يستند إلى هذا الوارد فى التوراة عنه، إلا ما ذكروه عن امرأته، فقد جعلوها امرأة من "جرهم"، وما أوردوه عنه من أنه هاجر إلى مكة، وأنه عاش هناك، وتعلم العربية فيها، وقبر فى "الحجر" عند قبر أمه "هاجر"، وأمور أخرى صغيرة تختلف باختلاف الروايات.
وقد جعلت التوراة لـ"إسماعيل" ولدًا، عدتهم اثنا عشر ولدًا، هم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمة، ذكرتهم على حسب مواليدهم، كما نص على ذلك فيها, وهو عدد يظهر أنه من وضع كتاب الأسفار وترتيبهم. أمهم امرأة مصرية، وهى كناية عن اتصال الإسماعيليين بالمصريين، وقد أخذ أهل الأخبار هذه الأسماء، وغيروا فى نطقها بعض التغيير، فصيَّروها: نابت وقيذر، وأذبل، ومبشا، ومسمعا، وماشي، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما، وما شاكل ذلك. وقد نص الطبرى على اختلاف أهل الأخبار فى ضبط هذه الأسماء4, ويعود هذا الاختلاف على ما يظهر إلى اختلاف المورد الذى أخذ منه أهل الأخبار.
وقد زعم أهل الأخبار أن إسماعيل تزوج من جرهم، وأن اسم زوجه "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى"، أو ما شاكل ذلك من أسماء، وأنها ولدت له اثنى عشر رجلًا، هم: نابت وكان أكبرهم، وقيذر، وأذبل، ومبشا، ومسمعا، وماشى، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما، وأكثر هذه الأسماء ورودًا وتكرارًا فى الكتب العربية، نابت وقيذر.
ونرى من عدد هؤلاء الأولاد ومن أسمائهم، أن رواتها أخذوا أولئك الأولاد من التوراة، أخذوا العدد وأخذوا الأسماء، ولكنهم حرفوا وصحفوا فيها، ولا ندرى أكان هذا التحريف قد وقع من الأخباريين أنفسهم، أجروه تعمدًا ليسهل النطق بها فى العربية، أم وقع من الرواة الإسرائيليين أو النصارى الذين رجع أهل الأخبار إليهم، فأخذوا منهم تلك الأسماء، أم أنه مجرد تحريف وتصحيف، وقع من الجانبين، فظهر على هذا الشكل؟
أما امرأة "إسماعيل" أم أولاده، فإنها ليست جرهمية عربية فى التوراة، وإنما هى امرأة مصرية كما ذكرت، لم تذكر التوراة اسمها، ويذكر أهل الأخبار أن إسماعيل كان قد تزوج بامرأة أخرى من جرهم قبل "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى"، أو "السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى"، كما تعرف فى روايات أخرى، إلا أنه طلقها بأمر أبيه، لما جاء إلى مكة زائرًا، فلما جاء للمرة الثانية ورأى زوجته الثانية رضى عنها، وأمر ابنه إسماعيل بإبقائها، فبقيت، ومنها كان نسله المذكورون.
وقد نص "الطبرى" على أن العرب هم من نابت وقيدر، ولم يذكر شيئا عن بقية الأولاد، والظاهر أن إهمالهم هذا الإهمال يعود إلى عدم وقوف الموارد التى أمدت الأخباريين على شىء عنها، وعدم تمكنهم من تعيينها وتثبيت مواضعها، فإن ذلك يحتاج إلى علم وإلى وقوف على ما جاء فى كتب التفاسير والشروح والموارد اليهودية الأخرى عن هذه القبائل، والموارد المذكورة نفسها لا تعرف عن تلك القبائل وعن تلك البلاد شيئا كثيرا يزيد على ما جاء فى التوراة، فإن كتبة الأسفار لم يهتموا إلا بما يتعلق بإسرائيل، أما ما وراء إسرائيل من شعوب وأرضين، ولا سيما الشعوب التى لا تتاخم الأرضين التى وجد فيها العبرانيون، فإنها لم تكن تُعنَى بها إلا بمقدار ما لها من صلة بإسرائيل.
وقد حددت التوراة المنازل التى أقام بها "الإسماعيليون"، فجعلتها من "حويلة" إلى "شور" فكل ما وقع بين المكانين، هو فى أرض القبائل الإسماعيلية، وقد ذكرتُ قبل قليل أن آراء العلماء مختلفة فى تعيين موقع أرض "حويلة"، وعندى أن هذا الموضع يجب ألا يكون بعيدا عن فلسطين، لأن "شاءول" ضرب العماليق من "حويلة" إلى شور ولا يعقل أن تكون هذه الأرضون بعيدة عن فلسطين، لأن "شاءول" لم يكن قويًّا ذا جيوش جرارة حتى تضرب العماليق فى منطقة نائية، بعيدة عن فلسطين.
أما "شور"، فموضع يقع على الحدود الشمالية الشرقية لأرض مصر، فى البَرِّية المسماة بـ"برية تيه بنى إسرائيل" وبـ"برية إيتام" ويرى بعض علماء التوراة أن "الطور" الحالية هى أرض "شور".
ويلاحظ أن الأرض التى زعم أن "شاءول" قد ضرب بها العماليق، "وضرب شاءول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التى مقابل مصر"، هى الأرض ذاتها التى جعلتها التوراة أرضا لذرية "يشمعئيل" "إسماعيل" فيظهر من ذلك أن العماليق كانوا قد سكونها أيضا، ولما كان العمالقة قد سكنوا أرضًا، تقع بين كنعان ومصر فى برية سيناء وتيه بنى إسرائيل، وجب أن تكون تلك الأرض هى موطن الإسماعيليين.
ويعترف العبرانيون بوجود صلات قربى لهم بالإسماعيليين. ويظهر أن القبائل الإسماعيلية عاشت زمنا طويلا فى "طور سيناء" وفى جنوب فلسطين، عاشت عيشة أعرابية، ولهذا كان الإسماعيليون أهل وبر بالقياس إلى اليقطانيين المستقرين.
وقد نظر العبرانيون نظرة عداء إلى الإسماعيليين؛ لأنهم كانوا يتحرشون بهم ويغيرون عليهم ويتعرضون لتجاراتهم, وقد ذكروا فى أيام "داوود"، وقد ورد فى التوراة أن الله أوحى إلى "هاجر" يبشرها بأن نسل ابنها سيكثر وينمو حتى يكون أمة عظيمة، وهو كناية عن كثرة عدد أولئك الأعراب فى أيام العبرانيين.
هذا, ونحن لا نعرف شيئًا يذكر عن "الإشماعيليين" "الإسماعيليين"، ولا عن لهجاتهم، ويرى بعض العلماء أن لهجاتهم يجب أن تكون من اللهجات العربية الشمالية المتأثرة بلغة بنى إرم، ولعدم وصول نص مدون بلهجة من لهجات هذه القبائل، لا نستطيع أن نبدى فى الزمان الحاضر رأيًا علميًّا فى شكل هذه اللهجات.